الخندق سياسي - عسكري متخصص

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الخندق سياسي - عسكري متخصص

المواضيع الأخيرة

» تعزيز مدى صواريخ GMLRS الموجهة بفارق 50 كلم
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الإثنين أغسطس 15, 2011 4:07 pm من طرف Gulf Knight

» الوصول إلى أي مكان في العالم خلال أقل من ساعة هدف أميركي قد يتحقق اليوم
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الإثنين أغسطس 15, 2011 4:02 pm من طرف Gulf Knight

» إسرائيل تبحث شراء وسائل قتالية أميركية مستعملة فى العراق
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الإثنين أغسطس 15, 2011 4:00 pm من طرف Gulf Knight

» كتيبة بنيامين تجدد التأكيد على جهوزية الجيش الإسرائيلي لمواجهات سبتمبر
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الإثنين أغسطس 15, 2011 3:59 pm من طرف Gulf Knight

» قبيل الانسحاب: العراق يتسلّم 22 مروحية مي-17 محدّثة من شركة ARINC الأميركية
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:30 pm من طرف Gulf Knight

» أفغانستان تتسلم 9 مروحيات "مي-17" من روسيا بحلول نهاية العام
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:29 pm من طرف Gulf Knight

» مناورات جوية لقوات دول الاتحاد السوفياتي السابق لمكافحة الإرهاب
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:28 pm من طرف Gulf Knight

» روسيا تطوّر نظامي الدفاع الجوي الجديدين: مارفي و فيتياز
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:27 pm من طرف Gulf Knight

» إختفاء صواريخ مضادة للدروع من معسكر إسرائيلي في الجولان
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:26 pm من طرف Gulf Knight

» إسرائيل تطور طائرة جديدة دون طيار
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:25 pm من طرف Gulf Knight

» إسقاط مروحية تشينوك في أفغانستان يودي بحياة 31 جندياً أميركياً و7 جنود أفغان
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:23 pm من طرف Gulf Knight

» دبابات الجيش السوري تقتحم مدينتي سراقب وقصير
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:22 pm من طرف Gulf Knight

» أحزاب الشيطان من طهران إلى العراق ولبنان
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:20 pm من طرف Gulf Knight

» سوريا وتركيا.. لقاء الوداع؟
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:19 pm من طرف Gulf Knight

» سوريا: تصورات نهاية النظام
السلطان محمد الفاتح Icon_minitime1الخميس أغسطس 11, 2011 6:19 pm من طرف Gulf Knight

سحابة الكلمات الدلالية

احصائيات

أعضاؤنا قدموا 3917 مساهمة في هذا المنتدى في 2851 موضوع

هذا المنتدى يتوفر على 125 عُضو.

آخر عُضو مُسجل هو ابو فمرحباً به.

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 

    السلطان محمد الفاتح

    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 3:51 pm

    الدولة العثمانية
    عوامل النهوض وأسباب السقوط
    "
    الفصل الثالث: محمد الفاتح وفتح القسطنطينية ويشتمل على سبعة مباحث:
    المبحث الأول: السلطان محمد الفاتح.
    المبحث الثاني: الفاتح المعنوي للقسطنطينية (الشيخ آق شمس الدين).
    المبحث الثالث: آثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلامي.
    المبحث الرابع: أسباب فتح القسطنطينية.
    المبحث الخامس: أهم صفات محمد الفاتح.
    المبحث السادس: شيء من أعماله الحضارية.
    المبحث السابع: وصية السلطان محمد الفاتح لأبنه.
    ---------------------------------------------------

    المبحث الأول
    السلطان محمد الفاتح
    هو السلطان محمد الثاني ( 431هـ- 1481م )، يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم مايقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين([1]). تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيراً في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية. وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيراً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر. وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيراً أو إهمال وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام وبعد أن قطع أشواطاً مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل انه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الامبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية([2]).


    أولاً: فتح القسطنطينية
    تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام 330م على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول([3]) ، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها : " لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها "([4])، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها([5]) عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول r أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق([6])، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقق فيهم حديث الرسول r : (لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)([7]).
    لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة.
    كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية وتعد هذه الحملة أقوى الحملات الأموية عليها، وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبدالملك سنة 98هـ([8]).
    واستمرت المحاولة لفتح القسطنطينية حيث شهد العصر العباسي الأول حملات جهادية مكثفة ضد الدولة البيزنطية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها وتهديدها مع أنها هزتها وأثرت على الأحداث داخلها، وبخاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد([9]) سنة 190هـ.
    وقد قامت فيما بعد عدة دويلات إسلامية في آسيا الصغرى كان من أهمها دولة السلاجقة، التي امتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى. كما أن زعيمها ألب أرسلان ( 455- 465هـ / 1063-1072م ) استطاع أن يهزم امبراطور الروم ديمونوس في موقعة ملاذ كرد عام 464هـ/1070م ثم أسره وضربه وسجنه وبعد مدة أطلق سراحه بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية للسلطان السلجوقي، وهذا يمثل خضوع جزء كبير من امبراطورية الروم للدولة الإسلامية السلجوقية وبعد ضعف دولة السلاجقة الكبرى ظهرت عدة دول سلجوقية كان منها دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى والتي استطاعت مد سلطتها إلى سواحل بحر إيجة غربا وإضعاف الامبراطورية الرومانية.
    وفي مطلع القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي خلف العثمانيون سلاجقة الروم([10]) وتجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في أيام السلطان بايزيد " الصاعقة " الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة 796هـ - 1393م([11])، وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الأوربية لصد الهجوم الاسلامي عن القسطنطينية ، وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الأراضي العثمانية وأخذت تعيث فسادا ، فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية ، حيث دارت بين الطرفين معركة أنقرة الشهيرة ، والتي أسر فيها بايزيد (الصاعقة) ثم مات بعد ذلك في الأسر سنة 1402م([12]) وكان نتيجة ذلك ان تفككت الدولة العثمانية مؤقتا ، وتوقف التفكير في فتح القسطنطينية إلى حين .
    وما أن استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد ، ففي أيام السلطان مراد الثاني الذي تولى الحكم في الفترة
    824هـ-863هـ/ 1421-1451م جرت عدة محاولات لفتح القسطنطينية وتمكنت جيوش العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثرة من مرة ، وكان الإمبراطور البيزنطي في أثناء تلك المحاولات يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان([13])، وبهذه الطريقة نجح في إشغاله في هدفه الذي حرص عليه ، فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن ابنه محمد الفاتح فيما بعد .
    كان محمد الفاتح يمارس الأعمال السلطانية في حياة ابيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة ، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية ، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة ، وبالتالي فمنذ أن ولى السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451هـ م([14]) كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام ولذلك نشأ على حب الإلتزام بالشريعة الإسلامية ، واتصف بالتقى والورع ، ومحبا للعلم والعلماء ومشجعا على نشر العلوم ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقها منذ الصغر ، بتوجيهات من والده ، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم ، ممن أشرفوا على رعايته([15]).
    لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن اسماعيل الكوراني" مشهودا له بالفضيلة التامة ، وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني" والد "الفاتح" . وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني -الفاتح- ، أميرا في بلدة "مغنيسيا" وقد أرسل إليه والده عددا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم ، ولم يقرأ شيئا ، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم ، فطلب السلطان المذكور ، رجلا له مهابة وحدّة ، فذكروا له المولى "الكوراني" ، فجعله معلما لولده وأعطاه قضيبا يضربه بذلك إذا خالف أمره . فذهب إليه ، فدخل عليه والقضيب بيده ، فقال: أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري، فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلام ، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربا شديداً ، حتى خاف منه السلطان محمد خان ، وختم القرآن في مدة يسيرة . . ." ([16]).
    هذه التربية الاسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل، ممن يمزق الأمر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع أو لاينحني للسلطان ، ويخاطبه باسم، ويصافحه ولايقبل يده، بل السلطان يقبل يده. من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح ، وأن يكون مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيد بالأوامر والنواهي معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولاً ثم على رعيته، تقياً صالحاً يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين([17]).
    وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره أمرين هما:
    1- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
    2- الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي : (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) ([18]) لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله r المذكور([19]).

    ثانياً: الإعداد للفتح:
    بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهوداً كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده الى قرابة ربع مليون مجاهد([20]) وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول r على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير ، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
    وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة (روملي حصار) في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي ، وقد حاول الامبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها الى 82 متراً وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور الى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول الى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة([21]).
    أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
    اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الاسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى (أوربان) كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل الى مئات الأطنان وأنه يحتاج الى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها([22]).
    ب- الاهتمام بالأسطول:
    ويضاف الى هذا الاستعداد مابذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية ، تلك المدينة البحرية التي لايكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة([23]).
    ج- عقد معاهدات:
    كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بيهما مضيق (القرن الذهبي) ، كما عقد معاهدات مع (المجد) و(البندقية) وهما من الامارات الأوروبية المجاورة ، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية([24]) مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
    في هذه الاثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الامبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره([25]) ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الامبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد الى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي ، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد وقد أضطر الامبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه الى القسطنطينية ، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الامبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال بعض زعماء الأرثودكس : (إنني افضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية) ([26]).
    ثانياً: الهجوم:
    كان القسطنطينية محاطة بالمياة البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور ، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة الى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة الى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها الى 60 قدماً ، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند([27])، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة الى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة اسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها([28])، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، ومافي فتحها من عز للاسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء([29]).
    وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب([30]).
    وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي ، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول الى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الاسطول العثماني أن تستولي على جزر الامراء في بحر مرمرة([31]).
    وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، واحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة، ولم يخلوا الامر من وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعين منذ الايام الأولى للحصار، وفتحت أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصاً من الأفراد الموكلين بالاقتراب من الابواب.
    وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة ، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان مايعيدون بناء الأسوار وترميمها .
    ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أوروبا ووصلت إمدادات من جنوة مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي جوستنيان يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة واستطاعت سفنهم أن تصل الى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة وكان لوصول هذه القوة أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وقد عين قائدها جستيان قائداً للقوات المدافعة عن المدينة([32]).
    وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الاسلامية إليه، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة([33]).
    ولم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة، وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب الى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة العذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الامبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف([34]).
    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty رد: السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 3:53 pm

    ثالثاً: مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين:
    استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى راسهم محمد الفاتح وصمد البيزنطيون بقيادة قسطنطين صموداً بطولياً في الدفاع وحاول الامبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها ، ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً([35])، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمون الرسالة: (فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام ومن شاء رحل عنها حيث اراد في أمن وسلام أيضاً)([36]).
    كان الحصار لايزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في ايدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم 18 أبريل([37]) تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار ، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين ، وكانت الثغرة ضيفة وكثرة السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين،ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة اخرى للهجوم([38]).
    وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة الى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الاسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن الى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها([39]).
    رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:
    بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة اخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول الى الخليج، حيث بذلت السفن الاسلامية جهوداً كبيرة لمنعها ، وأشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل الى قائد الأسطول وقال له: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، واذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً)([40]) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول الى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الاسطول([41]) بعد ما رجع الى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الاسطول بالطه أوغلي وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر بالطة أوغلي لهذا وقال : (إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت انا ورجالي بكل ماكان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة)([42]).
    أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا([43]).
    لقد ذكرت كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يراقب هذه المعارك البحرية وهو على جواده وقد اندفع نحو البحر حتى غاص حصانه الى صدره وكانت السفن المتقاتلة على مرمى حجر منه فأخذ يصيح لبطله أوغلي بأعلى صوته: ياقبطان! ياقبطان! ويلوح له بيده، وضاعف العثمانيون جهودهم في الهجوم دون أن يأثروا في السفن تأثيراً ليناً([44]).
    كانت الهزائم البحرية للأسطول العثماني دور كبير في محاولة بعض مستشاري السلطان وعلى رأسهم الوزير (خليل باشا) إقتناعه بالعدول عن الاستيلاء على القسطنطينية والرضا بمصالحة أهلها دون السيطرة عليها وبالتالي رفع الحصار عنها، ولكن السلطان أصر على محاولة الفتح واستمر في قصف دفاعات المدينة بالمدافع من كل جانب ، وفي الوقت نفسه كان يفكر بجدية في إدخال السفن الاسلامية الىالقرن الذهبي ، خصوصاً وأن الأسوار من ناحية القرن الذهبي متهاوية، وبالتالي سيضطر البيزنطيون الى سحب بعض قواتهم المدافعة عن الاسوار الغربية من المدينة وبهذا التفريق للقوات المدافعة ستتهيأ فرصة أكبر في الهجوم على تلك الأسوار بعد أن ينقص عدد المدافعين عنها([45]).
    خامساً: عبقرية حربية فذة:
    لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
    جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، واعربوا عن اعجابهم بها.
    بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، الا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن([46]).
    وجرت السفن من البسفور الىالبر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ، حتى وصلت الى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته([47]).
    كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات ، تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة. لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ماتم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة.
    ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها اثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك الى الله سبحانه وتعالى ثم الىهمة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة ، والى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الايدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط.
    وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية، وهتافاتهم المتصاعدة، واناشيدهم الإيمانية العالية([48])، في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين([49])، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض الى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الأسكندر الأكبر)([50]).
    ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة"([51]) وكان لوجود السفن الاسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار ، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى([52]).
    وقد حاول الامبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميته كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.
    واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلَّق أسوارها، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد المحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس([53]).
    كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً([54]).

    سادساً: اجتماع بين الملك قسطنطين ومعاونيه:
    عقد الملك قسطنطين ومعاونيه ومستشاريه ورجال النصرانية في المدينة اجتماعاً، فأشاروا عليه بالخروج بنفسه من المدينة والتوجه لطلب النجدات من الأمم المسيحية، والدول الأوروبية ، ولعل تأتي الجيوش النصرانية ، فيضطر محمد الفاتح لرفع الحصار عن مدينتهم، ولكنه رفض هذا الرأي وأصر على أن يقاوم الى آخر لحظة ولا يترك شعبه في المدينة حتى يكون مصيره ومصيرهم واحداً، وأنه يعتبر هذا واجبه المقدس وأمرهم أن لا ينصحوه بالخروج أبداً وأكتفى بإرسال وفود تمثله الى مختلف أنحاء أوروبا لطلب المساعدة([55]) ورجعت تلك الوفود تجر خلفها أذيال الخيبة وكانت الأجهزة الأستخباراتية للدولة العثمانية قد اخترقت القسطنطينية وماحولها بحيث أصبحت القيادة العثمانية على علم تام بما يدور حولها.
    سابعاً: الحرب النفسية العثمانية:
    ضاعف السلطان محمد الثاني الهجوم على الاسوار وجعله مركزاً وعنيفاً، ضمن خطة أعدها بنفسه أيضاً لإضعاف العدو، وكررت القوات العثمانية عملية الهجوم على الأسوار ومحاولة تسلقها مرات عديدة بصورة بطولية بلغت غاية عظيمة من الشجاعة والتضحية والتفاني ، وكان أكثر ما يرعب جنود الامبراطور قسطنطين صيحاتهم وهي تشق عنان السماء وتقول: (الله أكبر الله أكبر) فتنزل عليهم كالصواعق المدمرة([56]).
    وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القوية على الهضاب الواقعة خلف غلطة، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء وأصابت احدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال، فخافت السفن الأخرى واضطرت للفرار، واتخذت من أسوار غلطة ملجأ لها، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الاخرى وكان السلطان محمد الفاتح يوالي الهجمات واطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل انهاك قوى المحاصرين، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة، وأعصابهم متوترة مجهودة تثور لأي سبب، واصبح كل واحد من الجنود ينظر الى صاحبه ويلاحظ على وجهه علامات الذل والهزيمة والفشل، وشرعوا يتحدثون علناً عن طرق النجاة والافلات بأرواحهم وما يتوقعونه من العثمانيين اذا ما اقتحموا عليهم مدينتهم.
    واضطر الامبراطور قسطنطين الى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه احد القادة مباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هم في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي ليكونس، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم الى مكان القتال، واستمر القتال الى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون([57]).
    وكان السلطان محمد -رحمه الله- يفاجئ عدوه من حين لآخر بفن جديد من فنون القتال والحصار، وحرب الاعصاب وبأساليب جديدة وطرق حديثة مبتكرة غير معروفة للعدو([58]).
    ففي المراحل المتقدمة من الحصار لجأ العثمانيون الى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة الى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريح، فأسرع الامبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه الى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول الى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين لمواجهتهم دون أن يعلموا، حتى إذا وصل العثمانيون الى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا الى سراديب خاصة وسرية تؤدي الى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إذ فاجأهم الروم، فصبوا عليهم ألسنة النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة ، فأختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم من حيث أتوا([59]).
    لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين ، فعاودوا حفر انفاق اخرى ، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار وقد اصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لايوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهم يمشون ان هي أصوات خفية لحفر يقوم به العثمانيون، وكثيراً ماكان يخيل لهم ان الارض ستنشق ويخرج منها الجند العثمانيون ويملئون المدينة ، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة، ويشيرون هنا وهناك في فزع ويقولون : (هذا تركي ، ...،هذا تركي) ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها انها تطارهم ، وكثيراً ماكان يحدث أن تتناقل العامة الاشاعة فتصبح كأنها حقيقة واقعة رأها احدهم بعيني رأسه وهكذا داخل سكان القسطنطينية فزع شديد أذهب وعيهم، حتى لكأنهم (سكارى وماهم بسكارى) ، فريق يجري، وفريق يتأمل السماء، ومجموعة تتفحص الأرض، والبعض ينظر في وجوه البعض الآخر في عصبية زائدة وفشل ذريع.
    ولم يكن عمل العثمايين هذا سهلاً ، فان هذه الانفاق التي حفروها قد أودت بحياة كثير منهم، فماتوا اختناقاً واحتراقاً في باطن الأرض، كما وقع الكثير منهم في بعض هذه المحاولات في أسر الروم، فقطعت رؤوسهم وقذف بها الى معسكر العثمانيين([60]).
    مفاجأة عسكرية عثمانية:
    لجأ العثمانيون الى اسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها ، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعة واقتربوا بها من الأسوار عند باب رومانوس، فاتجه الامبراطور بنفسه ومعه قواده ليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به، إلا أن المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلاء الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب([61]).
    ولم ييأس العثمانيون من المحاولة بل قال الفاتح وكان يشرف بنفسه على ماوقع: غداً نصنع أربعاً أخرى([62]).
    زاد الحصار وقوي واشتد حتى أرهق من بداخل المدينة من البيزنطيين، فعقد زعماء المدينة اجتماعاً 24 مايو داخل قصر الامبراطور وبحضوره شخصياً، وقد لاح في الأفق بوادر يأس المجتمعين من إنقاذ المدينة حيث اقترح بعضهم على الامبراطور الخروج بنفسه قبل سقوط المدينة لكي يحاول جمع المساعدات والنجدات لإنقاذها أو استعادتها بعد السقوط، ولكن الامبراطور رفض ذلك مرة اخرى وأصر على البقاء داخل المدينة والاستمرار في قيادة شعبه وخرج لتفقد الأسوار والتحصينات.
    وأخذت الاشاعات تهيمن على المدينة وتضعف من مقاومة المدافعين عنها، وكان من أقواها عليهم ماحدث في يوم 16 جمادىالأولى الموافق 25 مايو، حيث حمل أهل المدينة تمثالاً للسيدة مريم العذراء (بزعمهم)، وأخذوا يتجولون به في ضواحي المدينة، يدعونه ويتضرعون الى العذراء أن تنصرهم على أعدائهم، وفجأة سقط التمثال من أيديهم وتحطم، فرأوا في ذلك شؤم ونذير بالخطر، وتأثر سكان المدينة وخصوصاً المدافعين عنها، وحدث في اليوم التالي 26 مايو هطول أمطار غزيرة مصحوبة ببعض الصواعق، ونزلت إحدى الصواعق على كنيسة آيا صوفيا، فتشأم البطريق ، وذهب الى الامبراطور وأخبره أن الله تخلى عنهم وأن المدينة ستسقط في يد المجاهدين العثمانيين، فتأثر الامبراطور حتى أغمى عليه([63]).
    وكانت المدفعية العثمانيةلا تنفك عن عملها في دك الأسوار والتحصينات، وتهدمت أجزاء كثيرة من السور والأبراج وامتلئت الخنادق بالأنقاض، التي يئس المدافعون من إزالتها وأصبحت إمكانية اقتحام المدينة واردة في أي لحظة، إلا أن اختيار موقع الاقتحام لم يحدد بعد([64]).
    ثامناً: المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين:
    أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام؛ فكتب الى الامبراطور رسالة دعاه فيه الى تسليم المدينة دون إراقة دماء، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة الى حيث يشاؤون بأمان([65])، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها، ولما وصلت الرسالة الى الامبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر ، فمال بعضهم الى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور الى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة، فرد الامبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها: (إنه يشكر الله إذ جنح السلطان الى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها الى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه او يدفن تحت أسوارها)([66])، فلما وصلت الرسالة الى الفاتح قال: (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش او يكون لي فيها قبر)([67]).
    وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً الى تكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى راسهم المهندس المجري أوربان الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك ، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة الى ضربها للأسوار والقلاع([68]).
    تاسعاً: السلطان محمد الفاتح يعقد اجتماع لمجلس الشوري:
    عقد السلطان محمد الفاتح اجتماعاً ضم مستشاريه وكبار قواده بالإضافة الى الشيوخ والعلماء، وقد طلب الفاتح من المجتمعين الإدلاء بآرائهم بكل صراحة دون تردد، فأشار بعضهم بالانسحاب ومنهم الوزير خليل باشا الذي دعا الى الانسحاب وعدم إراقة الدماء والتحذير من غضب أوروبا النصرانية فيما لو استولى المسلمون على المدينة، الى غير ذلك من المبررات التي طرحها، وكان متهماً بمواطئة البيزنطيين ومحاولة التخذيل عنهم([69])، وقد قام بعض الحضور بتشجيع السلطان على مواصلة الهجوم على المدينة حتى الفتح واستهان بأوروبا وقواتها، كما أشار الى تحمس الجند لإتمام الفتح، وما في التراجع من تحطيم لمعنوياتهم الجهادية، وكان من هؤلاء أحد القواد الشجعان ويدعى (زوغنوش باشا) وهو من أصل ألباني كان نصرانياً فأسلم حيث هون من شأن القوات الأوروبية على السلطان([70]).
    وذكرت كتب التاريخ موقف زوغنوش باشا فقالت: (ما أن سأله السلطان الفاتح عن رأيه حتى استوفز في قعدته وصاح في لغة تركية تشوبها لكنة ارناؤوطية: حاشا وكلا أيها السلطان، أنا لا أقبل أبداً ماقاله خليل باشا، فما أتينا هنا إلا لنموت لا لنرجع. وأحدث هذا الاستهلال وقعاً عميقاً في نفوس الحاضرين، وخيم السكون على المجلس لحظة ثم واصل زوغنوش باشا كلامه فقال: إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة ولكنه لن يبوء إلا بالخيبة والخسران. ان جيش الاسكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف الى الهند وقهر نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن اكبر من جيشنا فإن كان ذلك الجيش استطاع ان يستولي على تلك الأراضي العظيمة الواسعة أفلا يستطيع جيشنا أن يتخطى هذه الكومة من الأحجار المتراكمة، وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم ولكن مالدول الغربية هذه؟ وهل هي الدول اللاتينية التي شغلها مابينها من خصام وتنافس، هل هي دول البحر المتوسط التي لاتقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصرة بيزنطة لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن، ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبوا الى الحرب وقاتلونا فهل سنقف منهم مكتوفي الأيدي بغير حراك، أو ليس لنا جيش يدافع عن كرامتنا وشرفنا؟
    ياصاحب السلطنة ، أما وقد سالتني رأيي فلأعلنها كلمة صريحة، يجب أن تكون قلوبنا كالصخر ، ويجب ان نواصل الحرب دون أن يظهر علينا اقل ضعف أو خور، لقد بدأنا أمراً فواجب علينا أن نتمه، ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة ونفتح ثغرات جديدة وننقض على العدو بشجاعة. لا أعرف شيئاً غير هذا، ولا استطيع ان أقول شيئاً غير هذا ....) ([71]).
    وبدأت على وجه الفاتح أمارات البشر والانشراح لسماع هذا القول، والتفت الى القائد طرخان يسأله رأيه فأجاب على الفور : ان زوغنوش باشا قد اصاب فيما قال وانا على رأيه ياسلطاني. ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما. وكان الفاتح يثق بهما كل الثقة فأجابا أنهما على رأي زوغنوش باشا وقالا: (يجب الاستمرار في الحرب، وبالغاية الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر)([72]).
    وسرت الحمية والحماس في جميع الحاضرين وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء الشيخين بالنصر والظفر ولم يملك نفسه من القول : من كان من اجدادي في مثل قوتي([73])؟
    لقد أيد العلماء الرأي القائل بمواصلة الجهاد كما فرح السلطان حيث كان يعبر عن رايه ورغبته في مواصلة الهجوم حتى الفتح، وانتهى الاجتماع بتعليمات من السلطان أن الهجوم العام والتعليمات باقتحام المدينة باتت وشيكة وسيأمر بها فور ظهور الفرصة المناسبة وأن على الجنود الاستعداد لذلك([74]).

    عاشراً : محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه:
    في يوم الاحد 18 جمادى الأولى 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه ، لعل الله أن يسر لهم الفتح ، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين ، كما قام الفاتح بنفسه ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخر احوالها ، وما وصلت إليه واوضاع المدافعين عنها في النقاط المختلفة ، وحدد مواقع معينة يتم فيها تركيز القصف العثماني ، تفقد فيها أحوالهم وحثهم على الجد والتضحية في قتال الأعداء ، كما بعث إلى أل غلطة التي وقفت على الحياد مؤكدا عليهم عدم التدخل فيما سيحدث ضامنا لهم الوفاء بعهده معهم ، وانه سيعوضهم عن كل ما يخسرونه من جراء ما يحدث. وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون نارا كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم بالتهليل والتكبير([75]) ، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانيين ، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدما، مما أوقع الرعب في قلوب الروم ، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقدا وموجها ومذكرا بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد([76]).
    وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والحماس ، وأبان لهم أنهم بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد ، والثواب الجزيل من الله تعالى وستسد دسائس هذه المدينة التي طالما مالأت عليهم الاعداء والمتآمرين وسيكون لأول جندي ينصب راية الإسلام([77]) على سور القسطنطينية الجزاء الأوفى والإقطاعات الواسعة.
    وكان علماء المسلمين وشيوخهم يتجولون بين الجنود ويقرأون على المجاهدين آيات الجهاد والقتال وسورة الأنفال ، ويذكرونهم بفضل الشهادة في سبيل الله وبالشهداء السابقين حول القسطنطينية وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري ويقولون للمجاهدين : لقد نزل سيدنا محمد r عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري ، وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة ونزل هنا ، وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشد الحماس والحمية([78]).
    وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه اصدر إليهم التعليمات الأخيرة ، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فردا فردا ، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرا وشرفا ، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم ، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون . . .)([79]).
    وفي هذا الوقت كان الامبراطور البيزنطي يجمع الناس في المدينة لإقامة ابتهال عام دعا فيه الرجال والنساء والصبيان للدعاء والتضرع والبكاء في الكنائس على طريقة النصارى لعله أن يستجاب لهم فتنجوا المدينة من هذا الحصار ، وقد خطب فيهم الإمبراطور خطبة بليغة كانت آخر خطبة خطبها ، حديث أكد عليهم بالدفاع عن المدينة حتى لو مات هو ، والاستماتة في حماية النصرانية أمام المسلمين العثمانيين ، وكانت خطبة رائعة كما يقول المؤرخون أبكت الجميع من الحاضرين ، كما صلى الإمبراطور ومن معه من النصارى الصلاة الأخيرة في كنيسة آياصوفيا أقدس الكنائس عندهم([80]) ثم قصد الإمبراطور قصره يزوره الزيارة الأخيرة فودع جميع من فيه واستصفحهم وكان مشهدا مؤثرا وقد كتب مؤرخو النصارى عن هذا المشهد ، فقال من حضره، (لو أن شخصا قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدموع لهذا المنظر)([81]).
    وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحد الغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر عند نحو منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ فرانتزتس ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى المدافعة ولاحظوا حركة الجيش العثماني النشطه المتوثبة للهجوم البري والبحري . وقبيل ذلك الليل بقليل رذت السماء رذا خفيفا كأنما كانت ترش الأرض رشا فخرج السلطان الفاتح من خيمته ورفع بصره إلى السماء وقال: (لقد أولانا الله رحمته وعنايته فأنزل هذا المطر المبارك في أوانه فإنه سيذهب بالغبار ويسهل لنا الحركة)([82]).
    الحادي عشر: "فتح من الله ونصر قريب"
    عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار ، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحريا في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس ، بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة([83])، وبعد أن انهكت الفرقة الاولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، وتمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للإقتحام ، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستمية من المهاجمين ، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق ، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أن ظنوا ان الأمر قد هدأ وكانوا ، قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال([84]) كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم ، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالإنسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف ، واتعبتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند طوب قابي ورفعوا الأعلام العثمانية([85]).
    مما زاد في حماس بقية الجيش للاقحام كما فتّوا في عضد الأعداء ، وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين جستنيان بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة([86]) مما أثر في بقية المدافعين ، وقد تولى الإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فارا من أرض المعركة ، وقد بذل الامبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.
    وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية اخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الاعلام العثمانية عليها، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لايعرف ، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة([87]).
    وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده وكان قواده يهنئونه وهو يقول : (الحمدلله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر)([88]).
    كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين ، وقد هرب أغلب أهل المدينة الى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادي الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م، إلا والسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون : ماشاء الله ، فالتفت إليهم وقال : لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله r وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً لله تعالى)([89]).
    الثاني عشر: معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين:
    توجه محمد الفاتح الى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة الى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة الى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الاسلامية.
    وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع([90]).
    لقد حاول المؤرخ الأنجليزي ادوارد شيبردكريسي في كتابة "تاريخ العثمانيين الاتراك أن يشوه صوره الفتح العثماني للقسطنطينية ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الاسلامي المجيد([91]) وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الاسلام ، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية، وساقهم الى اسواق الرقيق في مدينة ادرنة حيث تم بيعهم هناك([92]).
    إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول أن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين ، واجتمع مع الاساقفة وهدأ من روعهم ، وطمأنهم الى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا أجناديوس برطيركا، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الاساقفة الى مقر السلطان، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى، دينية وسياسية واجتماعية وخرج البطريرك من لقاء السلطان، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك، بل والمسلمين عامة، وشعر انه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وانسانية رفيعة، ورجولة مكتملة ، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لابد لاحقهم، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام([93]).
    كان العثمانيون حريصون على الالتزام بقواعد الاسلام، ولذلك كان العدل بين الناس من أهم الأمور التي حرصوا عليها، وكانت معاملتهم للنصارى خالية من أي شكل من أشكال التعصب والظلم ، ولم يخطر ببال العثمانيين أن يضطهدوا النصارى بسبب دينهم([94]).
    إن ملل النصارى تحت الحكم العثماني تحصلت على كافة حقوقها الدينية ، وأصبح لكل ملة رئيس ديني لا يخاطب غير حكومة السلطان ذاتها مباشرة، ولكل ملة من هذه الملل مدارسها الخاصة وأماكن للعبادة والأديرة، كما أنه كان لايتدخل أحد في ماليتها وكانت تطلق لهم الحرية في تكلم اللغة التي يريدونها([95]).
    إن السلطان محمد الفاتح لم يظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إلا بدافع إلتزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسياً بالنبي الكريم r ، ثم بخلفائه الراشدين من بعده، الذين أمتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم([96]).
    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty رد: السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 3:54 pm

    المبحث الثاني
    الفاتح المعنوي للقسطنطينية
    الشيخ آق شمس الدين

    هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي ارتحل مع والده الى الروم، وطلب فنون العلوم وتبحر فيها وأصبح علم من أعلام الحضارة الاسلامية في عهدها العثماني.
    وهو معلم الفاتح ومربيه يتصل نسبه بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق t، كان مولوده في دمشق عم 792هـ (1389م) حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في انقرة وتوفي عام 1459هـ.
    درّس الشيخ آق شمس الدين الأمير محمد الفاتح العلوم الاساسية في ذلك الزمن وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الاسلامية واللغات (العربية ، والفارسية والتركية) وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة الولاية ، وأصول الحكم .
    واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)([1]).
    وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية، وكان شاباً صغير السن وجّهه شيخه فوراً الى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً. ودارت الحرب العنيفة 54 يوماً.
    وعندما حقق البيزنطيون انتصاراً مؤقتاً وابتهج الشعب البيزنطي بدخول أربع سفن ارسلها البابا إليهم وارتفعت روحهم المعنوية اجتمع الأمراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمد الفاتح وقالوا له : (إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ -يقصدون آق شمس الدين- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عون من بلاد الأفرنج للكافرين داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح...)([2]). فأرسل السلطان محمد وزيره ولي الدين أحمد باشا الى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله الحل فأجاب الشيخ: (لابد من أن يمنّ الله بالفتح)([3]).
    ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب، فأرسل وزيره مرة أخرى ليطلب من الشيخ أن يوضح له أكثر، فكتب هذه الرسالة الى تلميذه محمد الفاتح يقول فيها: (هو المعزّ الناصر ... إن حادث تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملامة وأحدث في الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي : إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله... ولقد لجأنا الى الله وتلونا القرآن الكريم وماهي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث مثلها من قبل)([4]).
    أحدث هذا الخطاب راحة وطمأنينة في الأمراء والجنود. وعلى الفور قرر مجلس الحرب العثماني الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية، ثم توجه السلطان محمد الى خيمة الشيخ شمس الدين فقبل يده، وقال : علمني ياسيدي دعاءً أدعو الله به ليوفقني ، فعلمه الشيخ دعاءً، وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام([5]).
    اراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله الفتح القريب([6]).
    وعاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك الى مقر قيادته ونظر الى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية([7]).
    ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني([8]).
    وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينية على يديه([9]).
    وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس، تقدم الشيخ الى السلطان الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في الشريعة الاسلامية([10]).
    وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا والعطايا وعمل لهم مأدبة حافلة استمرت ثلاثة أيام اقيمت خلالها الزينات والمهرجانات، وكان السلطان يقوم بخدمة جنوده بنفسه متمثلاً بالقول السائد (سيد القوم خادمهم). ثم نهض ذلك الشيخ العالم الورع آق شمس الدين وخطبهم، فقال: ياجنود الاسلام. اعلموا واذكروا أن النبي r قال في شأنكم: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)([11]). ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا. ألا لاتسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولاتبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه. ثم التفت الى الفاتح وقال له : ياسلطاني ، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله. ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد([12]).
    وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية([13]).
    وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقي خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا([14]).
    الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان من الغرور:
    كان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بين السلطان لمن حوله -بعد الفتح- : (إنكم ترونني فرحاً . فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين.
    وعبر الشيخ عن تهيبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا. قال السلطان الفاتح: (إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري . إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة)([15]).
    ذكر صاحب البدر الطالع أن ... ثم بعد يوم جاء السلطان الى خيمة صاحب الترجمة - أي آق شمس الدين) - وهو مضطجع فلم يقم له فقبل السلطان يده وقال له جئتك لحاجة قال: وماهي؟ قال: ان ادخل الخلوة عندك فأبى فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال أنه يأتي إليك واحد من الاتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى عليّ فقال الشيخ: إنك اذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح ثم ارسل إليه ألف دينار فلم يقبل ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه: ماقام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام فاراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو....)([16]).
    هكذا كان هذا العالم الجليل الذي حرص على تربية محمد الفاتح على معاني الإيمان والاسلام والإحسان ولم يكن هذا الشيخ متبحراً في علوم الدين والتزكية فقط بل كان عالماً في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهوراً في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض. وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلاً بين الناس يقول: (إن النبات ليحدث آق شمس الدين)([17]).
    وقال الشوكاني عنه: (...وصار مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان فإنه اشتهر أن الشجرة كانت تناديه وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني ثم اشتهرت بركته وظهر فضله...) ([18]).
    وكان الشيخ يهتم بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض النفسية.
    واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتماماً خاصاً بالامراض المعدية، فقد كانت هذه الامراض في عصره تسبب في موت الآلاف، وألف في ذلك كتاباً بالتركية بعنوان "مادة الحياة" قال فيه: (من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الاشخاص تلقائيا، فالأمراض تنتقل من شخص الى آخر بطريق العدوى. هذه العدوى صغيرة ودقيقة الى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة. لكن هذا يحدث بواسطة بذور حيّة) ([19]).
    وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك ، ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد. وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستير ليقوم بأبحاثه وليصل الى نفس النتيجة.
    وأهتم الشيخ آق شمس الدين أيضاً بالسرطان وكتب عنه وفي الطب ألف الشيخ كتابين هما: (مادة الحياة) ، و(كتاب الطب) ، وهما باللغة التركية والعثمانية. وللشيخ باللغة العربية سبع كتب، هي : حل المشكلات، الرسالة النورية ، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، تلخيص المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بايرام ولي([20]).
    وفاته:
    عاد الشيخ الى موطنه كونيوك بعد أن أحسس بالحاجة الى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في استنبول ومات عام 863هـ/1459م فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان([21]).
    وهكذا سنة الله في خلقه لايخرج قائد رباني ، وفاتح مغوار إلا كان حوله مجموعة من العلماء الربانيين يساهمون في تعليمه وتربيته وترشيده والأمثلة في ذلك كثيرة وقد ذكرنا دور عبدالله بن ياسين مع يحيى بن ابراهيم في دولة المرابطين، والقاضي الفاضل مع صلاح الدين في الدولة الأيوبية ، وهذا آق شمس الدين مع محمد الفاتح في الدولة العثمانية فرحمة الله على الجميع وتقبل الله جهودهم وأعمالهم وأعلى ذكرهم في المصلحين.

    المبحث الثالث


    أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلامي


    كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار الاسلام في اوروبا ولذلك فإن سقوطها يعني فتح الاسلام لدخول أوروبا بقوة وسلام لمعتنقيه أكثر من ذي قبل ، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصاً تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة([1]).
    وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإعادة تحصينها، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية وأطلق عليها لقب اسلام بول أي مدينة الاسلام([2]).
    لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والالم والخزي ، وتجسم لهم خطر جيوش الاسلام القادمة من استنبول ، وبذل الشعراء والادباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين ، وعقد الامراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادى النصارى الى نبذ الخلافات والحزازات وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الايطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتم إلا أن الموت عاجل البابا بسبب الصدمة العنيفة الناشئة عن سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين والتي تسببت في همه وحزنه فمات كمداً في 25 مارس سنة 1455م([3]).
    وتحمس الأمير فيليب الطيب دوق بورجونديا والتهب حماساً وحمية واستنفر ملوك النصارى الى قتال المسلمين وحذ حذوه البارونات والفرسان والمتحمسون والمتعصبون للنصرانية، وتحولت فكرة قتال المسلمين الى عقيدة مقدسة تدفعهم لغزو بلادهم ، وتزعمت البابوية في روما حروب النصارى ضد المسلمين وكان السلطان محمد الفاتح بالمرصاد لكل تحركات النصارى، وخطط ونفذ مارآه مناسباً لتقوية دولته وتدمير أعدائه، واضطر النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي آماسيا، وبلاد المورة ، طرابيزون وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم الى السلطان في أدرنة لتهنئته على انتصاره العظيم([4]).
    وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ، وحنكة سياسية، تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين ولما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية، فلقد انهكت حرب المائة عام انكلتر وفرنسا، كما أن بريطانيا كانت منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، وأما أسبانيا فهي مشغولة بالقضاء على مسلمي الأندلس وأما الجمهوريات الايطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها بالدولة العثمانية مكرهة وحباً في المال ، فكانت تهتم بعلاقتها مع الدولة العثمانية.
    وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا واصبحت المجر والبندقية تواجه الدولة العثمانية لوحدهما؛ أما البندقية فعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية لمصالحها وأما المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانية واستطاع العثمانيون أن يضموا الى دولتهم بلاد الصرب، واليونان والافلاق والقرم والجزر الرئيسية في الأرخبيل. وقد تم ذلك في فترة قصيرة ، حيث داهمهم السلطان الفاتح، وشتت شملهم ، واخذهم أخذاً عظيماً([5]).
    وحاول البابا (بيوس الثاني) بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين : حاول أولاً أن يقنع الاتراك باعتناق الدين النصراني، ولم يقم بارسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على ارسال خطاب الى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعضد النصرانية، كما عضدها قبله قسطنطين وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه ان هو اعتنق النصرانية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ الى الخطة الثانية خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وكانت نتائج هذه الخطة الثانية قد بدأ فشلها مسبقاً بهزيمة الجيوش الصليبية والقضاء على الحملة التي قادها هونياد المجري([6]).
    وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الاسلامي - فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الاجيال ، ولقد تطلعت له طويلاً وهاقد تحقق وارسل السلطان محمد الفاتح رسائل الى حكام الديار الاسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الاسلامي العظيم- وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط والاعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة([7]).
    يقول ابن إياس صاحب كتاب (بدائع الزهور) في هذه الواقعة : (فلما بلغ ذلك ، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم أن السلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولاً الى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح)([8]).
    وندع المؤرخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة عندما وصل إليها وفد الفاتح ومعهم الهدايا واسيران من عظماء الروم، قال : (قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح العظيم وجاء القاصد المذكور ومعه اسيران من عظماء اسطنبول وطلع بهما الى السلطان (سلطان مصر إينال) وهما من أهل القسطنطينية وهي الكنيسة العظيمة باسطنبول فسر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياماً ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران الى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال بعد أن اجتار القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة. وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك الى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل..) ([9]).
    وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ماهو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الاسلامية الاخرى. وقد بعث السلطان محمد الفاتح برسائل الفتح الى سلطان مصر وشاه ايران وشريف مكة وأمير القرمان، كما بعث بمثل هذه الرسائل الى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاق والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا والى جميع أطراف مملكته([10]).

    من رسالة الفاتح الى سلطان مصر:
    واليك مقتطفات من رسالة الفاتح الى أخيه سلطان مصر الأشرف اينال وهي من إنشاء الشيخ أحمد الكوراني: (..إن من أحسن سنن أسلافنا رحمهم الله تعالى أنهم مجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم ونحن على تلك السنة قائمون وعلى تيك الأمنية دائمون ممتثلين بقوله تعالى : {قاتلوا الذين لايؤمنون بالله}، ومستمسكين بقوله عليه السلام: (من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) فهممنا في هذا العام عممه الله بالبركة والإنعام معتصمين بحبل الله ذي الجلال والاكرام ومتمسكين بفضل الملك العلام الى أداء فرض الغزاء في الاسلام مؤتمرين بأمره تعالى:{قاتلوا الذين يلونكم من الكفار...} وجهزنا عساكر الغزاة والمجاهدين من البر والبحر لفتح مدينة ملئت فجوراً وكفراً التي بقيت وسط الممالك الاسلامية تباهي بكفرها فخراً .
    فكأنها حصف على الخد الأغر
    وكأنها كلف على وجه القمر
    ......... هذه المدينة الواقع جانب منها في البحر وجانب منها في البر، فأعددنا لها كما أمرنا الله بقوله : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. } كل أهبة يعتد بها وجميع أسلحة يعتمد عليها من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والحجور وغيرها من جانب البر والفلك المشحون والجوار المنشآت في البحر كالأعلام من جانب البحر ونزلنا عليها في السادس والعشرين من ربيع الأول من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة
    فقلت للنفس جدي الآن فاجتهدي
    وساعديني فهذا ما تمنيت
    فكلما دعوا إلى الحق أصروا واستكبروا وكانوا من الكافرين فأحطنا بها محاصرة وحاربناهم وحاربونا وقاتلناهم وقاتلونا وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يوماً وليلة

    إذا جاء نصر الله والفتح هين
    على المرء معسور الأمور وصعبها
    فمتى طلع الصبح الصادق من يوم الثلاثاء يوم العشرين من جمادي الأولى هجمنا مثل النجوم رجوماً لجنود الشياطين سخرها الحكم الصديقي ببركة العدل الفاروقي بالضرب الحيدري لآل عثمان قد من الله بالفتح قبل أن ظهرت الشمس من مشرقها { سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }، وأول من قتل وقطع رأسه تكفورهم اللعين الكنود فأهلكوا كقوم عاد وثمود فحفظهم ملائكة العذاب فأوردهم النار وبئس المآب فقتل من قتل وأسر من به بقى وأغاروا على خزاينهم وأخرجوا كنوزهم ودفافينهم موفوراً فأتى عليهم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، فلما ظهرنا على هؤلاء الأرجاس الأنجاس الحلوس طهرنا القوس من القسوس وأخرجنا منه الصليب والناقوس وصيرنا معابد عبدة الأصنام مساجد أهل الإسلام وتشرفت تلك الخطة بشرف السكة والخطبة فوقع أمر الله وبطل ما كانوا يعملون......([11]).
    وأرسل السلطان الفاتح رسالة إلى شريف مكة عن طريق سلطان مصر وقد رد سلطان مصر على خطاب السلطان محمد وهداياه بمقطوعة من النثر الأدبي الرفيع وجاءت فيها بعض الأبيات الشعرية المعبرة مثل قول الشاعر:
    خطبتها بكراً وما أمهرتها
    إلا قنا وقواضباً وفوارسا
    من كانت السمر العوالي مهره
    جلبت له بيض الحصون عرايسا
    الله أكبر ما جنيت ثمارها
    إلا وكان أبوك قبلك غراسا([12])
    وقد جاء في رسالة سلطان مصر أيضاً هذا البيت: قال الشاعر:
    الله أكبر هذا النصر والظفر
    هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر([13])
    وقال شاعر سلطان مصر بمناسبة فتح القسطنطينية:
    كذا فليكن في الله جل العزايم
    وإلا فلا تجفو الجفون الصوارم
    كتائبك البحر الخضم جيادها
    إذا ما تهدت موجه المتلاطم
    تحيط بمنصور اللواء مظفر
    له النصر والتأييد عبد وخادم
    فيا ناصر الإسلام يا من بغزوه
    على الكفر أيام الزمان مواسم
    تهنَّ بفتح سار في الأرض ذكره
    سرى الغيث يحدوه الصبا والنعايم([14])
    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty رد: السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 4:06 pm

    رسالة السلطان محمد الفاتح إلى شريف مكة :
    وجه السلطان محمد الفاتح رسالة إلى شريف مكة المكرمة بمناسبة فتح القسطنطينية بشره فيها بالفتح، وطلب الدعاء، وأرسل له الهدايا من الغنائم، وهذه بعض فقراتها:
    بعد مقدمة في المدح والثناء على شريف " مكة المكرمة " يقول : " فقد أرسلنا هذا الكتاب مبشراً بما رزق الله لنا في هذه السنة من الفتوح التي لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهي تسخير البلدة المشهورة بالقسطنطينية، فالمأمول من مقر عزكم الشريفة أن يبشر بقدوم هذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى، مع سكان الحرمين الشريفين، والعلماء والسادات المهتدين، والزهاد والعباد الصالحين، والمشايخ، والأمجاد الواصلين، والأئمة الخيار المتقين، والصغار والكبار أجمعين، والمتمسكين بأذيال سرادقات بيت الله الحرام، التي كالعروة الوثقى لا انفصام لها والمشرفين بزمزم والمقام، والمعتكفين في قرب جوار رسول الله عليه التحية والسلام داعين لدوام دولتنا في العرفات، متضرعين من الله نصرتنا، أفاض علينا بركاتهم ورفع درجاتهم، وبعثنا مع المشار اليه هدية لكم خاصة ألفي فلوري من الذهب الخالص التام الوزن والعيار المأخوذ من تلك الغنيمة، وسبعة آلاف فلوري أخرى للفقراء، منها ألفان للسادات والنقباء، وألف للخدام المخصوصين للحرمين، والباقي للمساكين المحتاجين في مكة والمدينة المنورة، زادهما الله شرفاً، فالمرجو منكم التقسيم بينهم بمقتضى احتياجهم وفقرهم، وإشعار كيفية السير إلينا، وتحصيل الدعاء منهم لنا، دائماً باللطف والإحسان إن شاء الله تعالى، والله يحفظكم ويبقيكم بالسعادة الأبدية والسيادة السرمدية إلى يوم الدين([15])
    وقد رد شريف مكة على رسالة السلطان محمد الفاتح:
    ( وفتحناها بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول الله خاتم النبيين وماهي إلا فتح " القسطنطينية " العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام، روّح الله أرواحهم، وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم، في إظهار المحبة لسكان الأراضي المقدسة([16])

    المبحث الرابع
    أسباب فتح القسطنطينية

    إن فتح المسلمين للقسطنطينية لم يأتي من فراغ وإنما هو نتيجة لجهود تراكمية قام بها المسلمون منذ العصور الأولى للإسلام رغبة من تلك الأجيال في تحقيق بشارة رسول الله r وزاد الاهتمام بفتح القسطنطينية مع ظهور دولة بني عثمان ونلاحظ أن سلاطين الدولة العثمانية كانوا أصحاب فقه عميق لسنة الأخذ بالأسباب ومارس محمد الفاتح ذلك الفقه ويظهر ذلك من خلال سيرته الجهادية وحرصه على العمل بقوله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ... } ( سورة الأنفال، آية: 60).
    لقد فهم محمد الفاتح من هذه الآية أن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولقد قام بشرح هذه الآية شرحاً عملياً في جهاده الميمون فقام بحشد جيش عظيم لحصار القسطنطينية ولم يتوانا في جلب كل سلاح معروف في زمانه من مدافع، وفرسان، ورماة .. الخ
    ولقد كان الجيش الذي حاصر القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح قد أعد إعداداً ربانياً فتربى على معاني الإيمان والتقوى، وتحمل الأمانة وأداء الرسالة المنوطة به ولقد تربى على معاني العقيدة الصحيحة وأشرف العلماء الربانيون على تلك التربية ولقد جعلوا من كتاب الله تعالى وسنة نبيه منهجاً لهم في تربية الأفراد، فكانوا يربونهم على:
    1- إن الله تعالى واحد لاشريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأنه منزه عن النقائص، وموصوف بالكمالات التي لاتتناهى.
    2- وأنه سبحانه خالق كل شيء، ومالكه، ومدبر أمره { ألا له الخلق والأمر} ( سورة الأعراف: 54 ).
    3- وأنه سبحانه وتعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت { وما بكم من نعمة فمن الله } ( سورة النحل: 53 ).
    4- وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ومالا يخفى الإنسان ومالا يعلن: { وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} ( سورة الطلاق: 12).
    5- وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لايترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب { مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ( سورة ق: Cool.
    6- وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف مايحبون، وما يهوون، ليعرف الناس معادنهم، من منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطناً، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوي شيئاً ولايسند إليه شيء : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } ( سورة الملك: 2 ).
    7- وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر : { إن وليِّ الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين } ( سورة الأعراف: 196 ).
    8- وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه، ويوحدوه، فلا يشركوا به شيئاً: { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ( سورة الزمر: 16 ).
    9- وأنه سبحانه - حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن العظيم.
    ولقد نهج علماء الدولة العثمانية منهج الرسول r في تربية الأفراد والجنود على حقيقة المصير وسبيل النجاة وركزوا في البيان على الجوانب التالية:
    1- إن هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } ( سورة يونس: 24 ). {قل متاع الدنيا قليل } ( النساء: 77 ).
    2- وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسؤولون ومحاسبون وفي الجنة أو في النار مستقرون: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } (القيامة:36).
    3- وأن نعيم الجنة ينسي كل تعب ومرارة في الدنيا، وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا : { أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ( سورة الشعراء:
    205-207 ).
    4- وأن الناس مع زوال الدنيا، واستقرارهم في الجنة، أو في النار، سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد..} ( سورة الحج: 1-2 ). وقال تعالى : { فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، السماء منفطر به كان وعده مفعولا } ( سورة المزمل: 17-18 ).
    5- وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال، ومن تلك الشدائد، والظفر بالجنة والبعد عن النار([1]) ، بالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} ( سورة البروج: 11 ).
    ومضى العلماء الربانيون في الدولة العثمانية على منهج الرسول r في تبصير الأفراد والجنود والقادة والشعب بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله وظلوا على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم، مالهم عند الله، ومادورهم ورسالتهم في الأرض، وتأثراً بهذه التربية الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس الأفراد والجنود والقادة فهذا محمد الفاتح نفسه الذي تربى على هذا المنهج يفتخر بهذه المعاني والقيم في أشعاره فنجده يقول:
    وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني، دين الله
    عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي: جند الله
    وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر على الفوز، بلطف الله
    جهادي: بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله
    وأشواقي: الغزو الغزو مئات الآلاف من المرات لوجه الله
    رجائي: في نصر الله. وسمو الدولة على أعداء الله([2]).
    وعندما أراد السلطان محمد فتح مدينة طرابزون وكان حاكمها نصراني وكان يريد أن يباغتها على غرة، فأعد العدة، واستصحب معه عدداً كبيراً من العمال المتخصصين في قطع الأشجار وتعبيد الطرق. وقد صادف الفاتح في طريقه بعض الجبال العالية الوعرة فترجل عن فرسه وتسلقها على يديه ورجيله كسائر الجند (وكانت معه والدة حسن اوزون زعيم التركمان جاءت للإصلاح بين السلطان محمد وابنها) فقالت له: (فيم تشقى كل هذا الشقاء يابني وتتكبد كل هذا العناء، هل تستحق طرابزون كل هذا؟ ) .. فأجاب الفاتح: ياأماه ، إن الله قد وضع هذا السيف في يدي لأجاهد به في سبيله، فإذا أنا لم أتحمل هذه المتاعب وأؤد بهذا السيف حقه فلن أكون جديراً بلقب الغازي الذي احمله وكيف القى الله بعد ذلك يوم القيامة؟ ([3]) وهكذا كان معظم الجنود والقادة بسبب تربيتهم الايمانية العميقة.
    لقد كان جيش محمد الفاتح في حصار القسطنطينية على جانب عظيم من التمسك بالعقيدة الصحيحة، والعبادات وإقامة شعائر الدين والخضوع لله رب العالمين([4]).
    لقد ذكر المؤرخون أسباب كثيرة في فتح القسطنطنية، كضعف الدولة البيزنطية، والصراعات العقدية بداخلها، والتآكل الداخلي للدول الأوروبية بسبب القتال الذي نشأ بين الدول الأوروبية لعقود طويلة وغير ذلك من الاسباب.
    أثر تحكيم شرع الله تعالى على الدولة العثمانية في زمن السلطان محمد الفاتح:
    إن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله r وفي حياة الأمم والشعوب تكسب العبد معرفة اصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفاق، وكتاب الله تعالى مليء بسننه وقوانينه المبثوثة في المجتمعات والدول والشعوب قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} (سورة النساء: آية 26).
    وسنن الله تتضح بالتدبر في كتاب الله وفميا صح عن رسول الله r، فقد كان r يقتنص الفرص ويستفيد من الأحداث ليرشد أصحابه الى شيء من السنن ، ومن ذلك أن ناقته عليه الصلاة والسلام "العضباء" كانت لا تُسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له، فشق ذلك على أصحاب النبي r فقال لهم عليه الصلاة والسلام كاشفاً عن سنة من سنن الله : (حق على الله أن لا يرفع شيء من الدنيا إلا وضعه) ([5]).
    وقد أرشدنا كتاب الله الى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسَيْر، وفي الأزمنة من التاريخ والسير قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (سورة آل عمران: آية 137-138).
    وأرشدنا القرآن الكريم الى معرفة السنن بالنظر والتفكر قال تعالى : {قل أنظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون، فهل ينظرون إلا مثل أيام الذين خلو من قبلهم، قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين} (سورة يونس: الآيات 101-102).
    ومن خلال آيات القرآن يظهر لنا أن السنن الإلهية تختص بخصائص:
    أولاً: إنها قدر سابق:
    قال تعالى: {ماكان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً} (سورة الأحزاب: آية 38).
    أي أن حكم الله تعالى وأمره الذي يقدره كائن لامحالة، وواقع لاحياد عنه، ولا معدل فيما شاء وكان ومالم يشأ لم يكن .
    ثانياً: أنها لاتتحول ولاتتبدل :
    قال تعالى : {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم، ثم لايجاورنك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقيلاً، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (سورة الأحزاب: الآيات 22-23، 60-62).
    وقال تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لايجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (سورة الفتح: الآية 22،23).

    ثالثاً: إنها ماضية لا تتوقف:
    قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } ( سورة غافر: الآيات 82-85).
    رابعاً: أنها لاتخالف ولا تنفع مخالفتها:
    قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاراً في الأرض، فما أغنى عنهم ماكانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ماكانوا به يستهزئون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون} (سورة غافر: الآيات 82-85).
    خامساً: لاينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون :
    قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (سورة آل عمران : الآيات 137-138).
    سادساً: إنها تسري على البر والفاجر:
    فالمؤمنون والأنبياء أعلاهم قدراً تسري عليهم سنن الله ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من امتثل أمر الله أو أعرض عنه وبما أن العثمانيين ألتزموا بشرع الله في كافة شؤونهم ومروا بمراحل طبيعية في حياة الدول فإن أثر حكم الله فيهم واضح بيّن:
    وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وآخرى أخروية أما الآثار الدنيوية التي ظهرت لي من خلال دراستي للدولة العثمانية فإنها:
    أولاً: الاستخلاف والتمكين:
    حيث نجد العثمانيين منذ زعيمهم الأول عثمان حتى محمد الفاتح ومن بعده حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسم وأهليهم وأخلصوا لله في تحاكمهم الى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قواهم وشد أزرهم واستخلفهم في الأرض وأقام العثمانيون شريعة الله في الأرض التي حكموها، فمكن لهم المولى عز وجل الملك ووطأ لهم السلطان.
    وهذه سنة ربانية نافذة لاتتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة لإقامة شرع الله.
    وقد خاطب تعالى المؤمنين من هذه الأمة واعداً إياهم بما وعد به المؤمين قبلهم، فقال سبحانه في سورة النور : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض (بدلاً من الكفار) كما استخلف الذين من قبلهم} من بني أسرائيل([6]).
    ولقد حقق العثمانيون الإيمان وتحاكموا الى شريعة الرحمن، فأتتهم ثمرة ذلك واثره الباقي {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} فحققوا التحاكم الى الدين، فتحقق لهم التمكين.
    ثانياً: الأمن والأستقرار:
    كانت بلاد آسيا الصغرى مضطربة وكثرت فيها الإمارات المتنازعة ، وبعدأن أكرم الله تعالى العثمانيين بتوحيد تلك الإمارات وتوجيهها نحو الجهاد في سبيل الله تعالى يسر الله للدولة العثمانية الأمن والاستقرار في تلك الربوع التي حكم فيها شرع الله.
    حيث نجد أن الدولة العثمانية بعد أن استخلفت مكن الله لها وأعطاها دواعي الأمن وأسباب الاستقرار حتى تحافظ على مكانتها وهذه سنة جارية ماضية ضمن الله لأهل الايمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم الأمن الذي ينشدون في أنفسهم وواقعهم ، فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وتصريف الأقدار، وهو مقلب القلوب ، والله يهب الأمن المطلق لمن استقام على التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (سورة الأنعام: آية ) فنفوسهم في أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء إذا خلصت لله من الشرك، صغيره وكبيره ، إن تحكيم شرع الله فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل الله ورحمته وحكمته.
    إن الله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف ثم التمكين لم يحرمهم بعد ذلك من التأمين، والتطمين والبعد عن الخوف والفزع.
    إن العثمانيين عندما حققوا العبودية لله ونبذوا الشرك بأنواعه حقق الله لهم الأمن في النفوس على مستوى الشعب والدولة.
    ثالثا: النصر والفتح:
    إن العثمانيين حرصوا على نصرة دين الله بكل مايملكون وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ` الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (سورة الحج: آية ).
    (وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ... إن الكثيرين ليشفقونا من اتباع شريعة الله والسير على هداه يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية ، وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسل الله r: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} (سورة القصص: آية 57)، فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان)([7]).
    إن الله تعالى أيد العثمانيين على الأعداء ومنّ عليهم بالفتح، فتح الأراضي وإخضاعها لحكم الله تعالى، وفتح القلوب هدايتها لدين الإسلام.
    إن العثمانيين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة الله جلبت لهم الفتح، واستنـزلت عليهم نصر الله.
    إن الشعوب الاسلامية التي تبتعد عن شريعة الله تذل نفسها في الدنيا والآخرة.
    إن مسؤولية الحكام والقضاة والعلماء والدعاة في الدعوة الى تحكيم شرع الله مسؤولية عظيمة يسألون عنها يوم القيامة أمام الله: (إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله، وقع بأسهم بينهم..وهذا أعظم أسباب تغير الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره)، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه؛ فإن الله يقول في كتابه : { ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} الى قوله تعالى: {ولله عاقبة الأمور}([8]) فقد وعد الله بنصره من ينصره ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لانصر من يحكم بغير ماأنزل الله ويتكلم بما لا يعلم)([9]).
    رابعاً: العز والشرف:
    إن عز العثمانيين وشرفهم العظيم الذي سطر في كتب التاريخ يرجع الى تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله r؛ إن من يعتز بالانتساب لكتاب الله وسنة رسوله r الذي به تشرف الأمة وبه يعلو ذكرها ، وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله r قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} (سورة الأنبياء : الآية 10).
    قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية : (فيه شرفكم)([10]) إن العثمانيين استمدوا شرفهم وعزهم من استمساكهم بأحكام الاسلام، كما قال عمر بن الخطاب t : (إنا كنّا أذل قوم ، فأعزنا الله بالاسلام، فمهما نطلب العز بغير ماأعزنا الله أذلنا الله)([11])، فعمر t كشف لنا بكلماته عن حقيقة الارتباط بين حال الأمة عزى وذُلاً، مع موقفها من الشريعة إقبالاً وإدباراً، فما عزت في يوم بغير دين الله، ولا ذلت في يومٍ إلا بالإنحراف عنه قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} (سورة فاطر: الآية 10) يعني من طلب العزة فيلعتز بطاعة الله عز وجل([12]).
    وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لايعلمون} (سورة المنافقين: الآية 8).
    إن سيرة سلاطين العثمانيين من أمثال عثمان الأول، ومراد، ومحمد الفاتح تبين لنا أعتزازهم بالاسلام وحبهم للقرآن واستعدادهم للموت في سبيل الله، ولقد عاشوا في بركة من العيش ورغد من الحياة الطيبة وما نالوا ذلك إلا بإقامة دين الله قال تعالى : {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (سورة الاعراف: آية 96).
    خامساً: انتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
    لقد انتشرت الفضائل في زمن محمد الفاتح وانحسرت الرذائل؛ فخرج جيل فيه نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة متطلعاً الى ما عند الله من الثواب يخشى من عقاب الله لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته وحكامه الى مايحبه الرحمن والى تعاليم الاسلام.
    إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب والدول التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ وإن تلك الآثار الطيبة التي اصابت الدولة العثمانية لهي من سنن الله الجارية والتي لاتتبدل ولا تتغير فأي شعب يسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد حين ويرى آثار ذلك التحكيم على أفراده وحكامه ودولته.
    إن الغرض من الأبحاث التاريخية الاسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالايمان في جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله وأخذهم بسنن التمكين وفقه ومراعاة التدرج والمرحلية والانتقاء من أفراد الشعب والارتقاء بهم نحو الكمالات الاسلامية المنشودة. إن الإنتصارات العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه وأقام شرعه وزكى نفسه ولهذا لم يأتي فتحاً عظيماً وفتحاً مبيناً إلا لمن توفرت فيهم صفات جيل التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم.
    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty رد: السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 4:07 pm

    المبحث الخامس
    أهم صفات محمد الفاتح

    لقد ظهرت بعض الصفات القيادية في شخصية محمد الفاتح عند البحث والدراسة ومن أهم هذه الصفات:
    1- الحزم:
    وظهر ذلك عندما غلب ظنه أن هناك تقصيراً أو تكاسلاً من جانب قائد الاسطول العثماني بالطه أوغلي عند حصاره للقسطنطينية، فأرسل إليه وقال: (إما تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها وإذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً)([1]).
    ولما لم يحقق بالطه أوغلي مهمته عزله، وجعل مكانه حمزة باشا.
    2- الشجاعة:
    وكان رحمه الله يخوض المعارك بنفسه ويقاتل الأعداء بسيفه وفي احدى المعارك في بلاد البلقان تعرض الجيش العثماني لكمين من قبل زعيم البوغدان استفان حيث تخفى مع جيشه خلف الأشجار الكثيفة المتلاصقة وبينما المسلمون بجانب تلك الاشجار انهمرت عليهم نيران المدافع الشديدة من بين الأشجار وانبطح الجنود على وجوههم وكاد الاضطراب يسود صفوف الجيش لولا أن سارع السلطان الفاتح وتباعد عن مرمى المدافع وعنّف رئيس الانكشارية محمد الطرابزوني على تخاذل جنده، ثم صاح فيهم: (أيها الغزاة المجاهدون كونوا جند الله ولتكن فيكم الحمية الاسلامية)([2]) وأمسك بالترس واستل سيفه ركض بحصانه واندفع به الى الامام لايلوي على شيء وألهب بذلك نار الحماس في جنده فانطلقوا وراءه واقتحموا الغابة على من فيها ونشب بين الأشجار قتال عنيف بالسيوف استمر من الضحى الى الأصيل.
    ومزق العثمانيون الجنود البوغدانية شر ممزق ووقع استفان من فوق ظهر جواده ولم ينج إلا بصعوبة وولى هارباً، وانتصر العثمانيون وغنموا غنائم وفيرة([3]).
    3- الذكاء:
    ويظهر ذلك في فكرته البارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنويـين ، وقد كانت المسافة بين الميناءين نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة وشرع في تنفيذ الخطة؛ ومهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، لقد كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على ذكاء محمد الفاتح الوقّاد([4]).
    4- العزيمة والإصرار:
    فعندما أرسل السلطان محمد الفاتح الى الامبراطور قسطنطين يطلب منه تسليم القسطنطينية حتى يحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها، فعندما رفض قسطنطين تسليم المدينة قال السلطان محمد : (حسناًعن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر)([5]).
    وعندما استطاع البيزنطيون أن يحرقوا القلعة الخشبية الضخمة المتحركة كان رده (غداً نصنع أربعاً اخرى)([6]).
    وهذه المواقف تدل على عزيمته وإصراره في الوصول الى هدفه.
    5- عدله:
    حيث عامل أهل الكتاب وفق الشريعة الاسلامية وأعطاهم حقوقهم الدينية ولم يتعرض أحد من النصارى للظلم أو التعدي بل أكرم زعمائهم وأحسن الى رؤسائهم وكان شعاره العدل أساس الملك([7]).
    6- عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان:
    نجد السلطان محمد عند دخول القسطنطينية يقول: (حمداً لله، ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد، ولشعبي الفخر والشكر)([8]).
    فهو أسند الفضل الى الله ولذلك لهج لسانه بالحمد والثناء والشكر لمولاه الذي نصره وأيده وهذا يدل على عمق إيمان محمد الفاتح بالله سبحانه وتعالى.
    7- الأخلاص:
    إن كثير من المواقف التي سجلت في تاريخ الفاتح تدلنا على عمق اخلاصه لدينه وعقيدته في اشعاره ومناجاته لربه سبحانه وتعالى حيث يقول:
    نيّتي : امتثالي لأمر الله (وجاهدوا في سبيل الله).
    وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني، دين الله.
    عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي : جند الله.
    وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر على الفوز، بلطف الله.
    جهادي : بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله .
    وأشواقي : الغزو الغزو مئات الآلاف من المرات لوجه الله.
    رجائي: في نصر الله. وسموا الدولة على أعداء الله([9]).
    8- علمه :
    أهتم والده به منذ الطفولة ولذلك خضع السلطان محمد الفاتح لنظام تربوي إشرف عليه مجموعة من علماء عصره المعروفين ، فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم العصرية -آنذاك- من رياضيات وفلك وتاريخ ودراسات عسكرية نظرية وتطبيقية، وكان من كرم الله للسلطان محمد الفاتح أن أشرف على تعليمه مجموعة من آساطين العلماء في عصره وفي مقدمتهم الشيخ آق شمس الدين والملا الكوراني (عالم الدين عند العثمانيين الأوائل يكون موسوعياً في شتى العلوم المعروفة في عصره). ولقد تأثر محمد الفاتح بتربية شيوخه وظهرت تلك التربية في اتجاهاته الثقافية والسياسية والعسكرية([10]).
    ولقد تبحر السلطان محمد في اللغات الاسلامية الثلاثة التي لم يكن يستغني عنها مثقف في ذلك العصر وهي : العربية والفارسية والتركية ، ولقد كان السلطان محمد الفاتح شاعراً وترك ديواناً باللغة التركية([11]).

    المبحث السادس


    شيء من أعماله الحضارية


    · اهتمامه بالمدارس والمعاهد:
    كان السلطان محمد الفاتح محباً للعلم والعلماء ولذلك اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته. وقد كان السلطان أورخان أول من أنشأ مدرسة نموذجية في الدولة العثمانية وسار بعده سلاطين الدولة على نهجه وانتشرت المدارس والمعاهد في بروسة وأدرنة وغيرها من المدن.
    ولقد فاق محمد الفاتح أجداده في هذا المضمار وبذل جهوداً كبيرة في نشر العلم وإنشاء المدارس والمعاهد وأدخل بعض الاصلاحات في التعليم واشرف على تهذيب المناهج وتطويرها وحرص على نشر المدارس والمعاهد في كافة المدن الكبيرة والصغيرة وكذلك القرى وأوقف عليها الأوقاف العظيمة. ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل ، ووضع لها المناهج، وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة ، ووضع لها نظام الامتحانات فلا ينتقل طالب من مرحلة الى اخرى إلا بعد اتقانه لعلوم المرحلة السابقة ويخضع لامتحان دقيق وكان السلطان الفاتح يتابع هذه الأمور ويشرف عليها واحياناً يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس بين الحين والحين ولا يأنف من استماع الدروس التي يلقيها الاساتذة، وكان يوصي الطلبة بالجد والاجتهاد ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الاساتذة والطلبة وجعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس : التفسير، والحديث، والفقه، والأدب، والبلاغة ، وعلوم اللغة من المعاني والبيان والبديع، والهندسة...الخ.
    وأنشأ بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسطها صحن فسيح وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وكان الموسم الدراسي على طول السنة في هذه المدارس وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة وكان يشترط في الرجل الذي يتولى امانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى متبحراً في اسماء الكتب والمؤلفين وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين مايطلبونه من الكتب بطريقة منظمة دقيقة ويسجل اسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي في عهدته ومسؤول عن سلامة أوراقها([1]) وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلاثة أشهر على الاقل وكانت مناهج هذه المدارس يتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسماً خاصاً وللعلوم التطبيقية قسماً خاصاً أيضاً، وكان الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في انشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية([2]).
    · اهتمام السلطان محمد الفاتح بالعلماء:
    لقد كان للعلماء والأدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح، فقرب إليه العلماء ورفع قدرهم وشجعهم على العمل والانتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ليتفرغوا للعلم والتعليم ويكرمهم غاية الإكرام ولو كانوا من خصومه ؛ فبعد أن ضم إمارة القرمان الى الدولة أمر بنقل العمال والصناع الى القسطنطينية غير أن وزيره روم محمد باشا ظلم الناس ومن بينهم بعض العلماء وأهل الفضل ومن بينهم العالم احمد جلبي بن السلطان امير علي فلما علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر إليه واعاده الى وطنه مع رفقائه معززاً مكرماً.
    وبعد أن هزم اوزون حسن زعيم التركمان وكان هذا الزعيم لا يلتزم بعهد ويناصر أعداء العثمانيين من أي ملة كانت، فبعد أن هزمه محمد الفاتح وقع في يده عدد كبير من الأسرى، فأمر السلطان الفاتح بقتلهم (إلا من كان من العلماء واصحاب المعارف مثل القاضي محمد الشريحي وكان من فضلاء الزمان، فأكرمه السلطان غاية الاكرام.
    وكان السلطان الفاتح يحترم العلماء وأهل الورع والتقى وقد تستبد به في بعض الاحيان نزوة جامعة او غضبة طارئة ولكنه ما يلبث إلا أن يعود الى وقاره واحترامه لهم.
    وتحدثنا كتب التاريخ أن السلطان محمد بعث مع احد خدامه بمرسوم الى الشيخ احمد الكوراني - وكان حين ذاك يتولى قضاء العسكر- فوجد فيه أمراً يخالف الشرع فمزقه وضرب الخادم. وشق ذلك على السلطان محمد وغضب من فعل الشيخ وعزله من منصبه، ووقع بينهما نفور وجفوة ورحل الكوراني الى مصر حيث استقبله سلطانها قيتباي وأكرمه غاية الاكرام واقام عنده برهة من الزمن. ومالبث الفاتح أن ندم على ماكان منه فكتب الى السلطان قيتباي يطلب منه ان يرسل إليه الشيخ الكوراني (فحكى السلطان قيتباي كتاب السلطان محمد خان للشيخ الكوراني ثم قال له لا تذهب إليه فاني اكرمك فوق مايكرمك هو. قال: نعم هو كذلك إلا أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد. وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر وهو يعرف ذلك مني ويعرف أني أميل إليه بالطبع فاذا لم أذهب إليه يفهم ان المنع من جانبك فتقع بينكما عداوة. فاستحسن السلطان قيتباي هذا الكلام واعطاه مالاً جزيلاً وهيأ له مايحتاج إليه من حوائج السفر وبعث معه هدايا عظيمة الى السلطان محمد خان. واسند إليه الفاتح القضاء ثم الافتاء واجزل له من العطاء واكرمه اكراماً لامزيد عليه([3]).
    قال عنه الشوكاني: (.. وانتقل من قضاء العسكر الى منصب الفتوى وتردد إليه الأكابر وشرح (جمع الجوامع) وكثر تعقبه للمحلى (جلال الدين المحلي المفسر) وعمل تفسيراً ، وشرحاً للبخاري وقصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت. وأنشأ بأسطنبول جامعاً ومدرسة سماها دار الحديث وانشالت عليه الدنيا وعمر الدور وانتشر علمه فأخذ عليه الأكابر وحج في سنة 761هـ احدى وستين وسبعمائة ولم يزل على جلالته حتى (مات) في أواخر سنة 793هـ ثلاث وتسعين وسبعمائة وصلى عليه السلطان فمن دونه ومن مطالع قصائده في مدح سلطانه:
    هو الشمس إلا أنه الليث باسلا
    هو البحر إلا أنه مالك البر
    وقد ترجمه صاحب (الشقائق النعمانية) ترجمة حافلة...وانه كان يخاطب السلطان بأسمه ولا ينحني له، ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة ، وانه كان لا يأتي الى السلطان إلا اذا أرسل إليه وكان يقول له ، مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط. وذكر له مناقب جمة تدل على أنه من العلماء العاملين...)([4]).
    وكان السلطان محمد الفاتح لا يسمع عن عالم في مكان اصابه عوزاً وإملاق إلا بادر الى مساعدته وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه.
    وكان من عادة الفاتح في شهر رمضان أن يأتي الى قصره بعد صلاة الظهر بجماعة من العلماء المتبحرين في تفسير القرآن فيقوم في كل مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم وتقريرها ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه، وكان الفاتح يشارك في هذه المناقشات ويشجع هؤلاء العلماء بالعطايا والهدايا والمكافآت المالية الجزيلة.
    اهتمامه بالشعراء والأدباء:
    ذكر مؤرخ الأدب العثماني أن السلطان محمد الفاتح ( راعٍ لنهضة أدبية، وشاعر مجيد حكم ثلاثين عاماً كانت أعوام خصب ورخاء وبركة ونماء وعرف بأبي الفتح لأنه غلب على إمبراطوريتين، وفتح سبع ممالك واستولى على مائتي مدينة وشاد دور العلم ودور العبادة، فعرف كذلك بأبي الخيرات )([5]) .
    وكان الفاتح مهتماً بالأدب عامة والشعر خاصة، وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم مثل أحمد باشا محمود ومحمود باشا وقاسم الجزري باشا، وهؤلاء شعراء([6]) وكان في بلاط الفاتح ثلاثون شاعراً يتناول كل منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم وكان طبيعياً بعد هذا الاهتمام أن يتفنن الشعراء والأدباء في مدح السلطان محمد لما قدمه الى العلم والأدب من كريم الرعاية وجميل التشجيع.
    وكان محمد الفاتح ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب الذي يخرج عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاطه([7]) .
    اهتمامه بالترجمة:
    كان السلطان محمد الفاتح متقن للغة الرومية ومن أجل أن يبعث نهضة فكرية في شعبه أمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية من ذلك كتاب " مشاهير الرجال " لبلوتارك ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب لأبي القاسم الزهراوي الطبيب الأندلسي مع زيادات في صور آلالات الجراحة وأوضاع المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية.
    وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له قام بمطالعته ودراسته مع العالم الرومي جورج اميروتزوس ثم طلب اليه الفاتح والى ابنه ( ابن العالم الرومي ) الذي كان يجيد اللغتين الرومية والعربية بترجمة الكتاب إلى العربية وإعادة رسم الخريطة مع التحقيق في أسماء البلدان وكتابتها باللغتين العربية والرومية وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة جمة وكان العلامة علي القوشجي وهو من أكبر علماء عصره في الرياضيات والفلك كلما ألف كتاباً بالفارسية نقله إلى العربية وأهداه إلى الفاتح.
    وكان الفاتح مهتم باللغة العربية، لأنها لغة القرآن الكريم كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة في ذلك العهد. وليس أدل على اهتمام الفاتح باللغة العربية من انه طلب إلى " المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة كالصحاح والتكملة والقاموس وأمثالها ". ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالاكثار من نشر المكاتب العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم وعين الشيخ لطفي أميناً عليها، وكان بها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت عام 1465م وقد وصف الاستاذ ديزمان هذه المكتبة بأنها بمثابة نقطة تحول في العلم بين الشرق والغرب([8]).
    اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات:
    كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقاً واهتم بالعاصمة ( استنبول ) اهتماماً خاصاً وكان حريصاً على أن يجعلها ( أجمل عواصم العالم ) وحاضرة العلوم والفنون. وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر واهتم بدور الشفاء ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب - ثم زيد إلى اثنين - من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم وأن لاتصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم([9]).
    الاهتمام بالتجارة والصناعة:
    اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على انعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان بذلك مقتفياً خط آبائه وأجداده السلاطين الذين : ( كانوا دائماً على استعداد لإنعاش الصناعة والتجارة بين رعاياهم وأن كثيراً من المدن الكبرى قد ازدهرت ازدهاراً كبيراً عندما خلصها الفتح العثماني مما أصابها في عهد الدولة البيزنطية من طغيان الثروة الحكومية التي عرقلت نهضتها وشلت حركتها، ومن هذه المدن نيقية وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة وانشأوا الكباري الجديدة مما سهل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة واضطرت الدول الأجنبية من فتح موانيها لرعايا الدولة العثمانية ليمارسوا حرفة التجارة في ظل الراية العثمانية وكان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عم الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة([10]) ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد([11]).
    الاهتمام بالتنظيمات الإدارية:
    عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته ولذلك قنن قوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته وكانت تلك القوانين مستمدة من الشرع الحكيم وشكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع ( قانون نامه ) المستمد من الشريعة الغراء وجعله أساساً لحكم دولته، وكان هذا القانون مكوناً من ثلاثة أبواب، يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد ومايجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات، ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أياً كان أصله وجنسه([12]).
    واهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم، وأشاع العدل بين رعيته، وجد في ملاحقة اللصوص وقطاع الطرق، وأجرى عليهم أحكام الإسلام، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية.
    وأبقى السلطان محمد النظام الذي كان سائداً لحكم الولايات أيام أسلافه، وأدخل عليه بعض التعديلات الطفيفة التي تناسب عصره ودولته. وكانت الدولة تنقسم إلى ولايات كبرى يحكمها أمير الأمراء وكان يسمى " بكلربك " وإلى ولايات صغرى ويحكمها أمير اللواء، وكان يسمى " سنجق بك " وكلا الحاكمان كان يقوم بأعمال مدنية وعسكرية في آن واحد، وترك لبعض الإمارات الصقلبية في أول الأمر بعض مظاهر الاستقلال الداخلي فكان يحكمها بعض أمراء منها ولكنهم تابعون للدولة ينفذون أوامر السلطان بكل دقة وهو يعزلهم ويعاقبهم اذا خالفوا أوامره أو فكروا في الثورة على الحكومة العثمانية.
    وعندما تعلن الدولة الجهاد وتدعوا أمراء الولايات وأمراء الالوية، كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزاً تاماً، وذلك حسب نسب مبينة، فكانوا يجهزون فارساً كامل السلاح قادراً على القتال عن كل خمسة آلاف آقجه من إيراد اقطاعه، فإذا كان إيراد اقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلاً كان عليه أن يشترك بمائة فارس، وكان جنود الإيالات مؤلفة من مشاه وفرسان، وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات الإيالات وبكوات الالوية([13]).
    وقام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاية وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته. واهتم بالنظام المالي ووضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة وقضى على إهمال الجباة وتلاعبهم مما كان يضيع على الدولة ثروات هائلة.
    لقد أظهر السلطان محمد في الناحية الإدارية كفاية ومقدرة لاتقلان عن كفايته ومقدرته في الناحيتين السياسية والحربية([14]).
    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty رد: السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 4:08 pm

    اهتمامه بالجيش والبحرية:
    لقد أنشأ الجيش النظامي من زمن السلطان أورخان واهتم من جاء بعده من السلاطين بتطوير الجيش وخصوصاً السلطان محمد الذي أولى الجيش رعاية خاصة، فالجيش في نظره من أسس الدولة وأركانها المهمة، فأعاد تنظيمه وتربيته وجعل لكل فرقة ( آغا ) يقودها وجعل لقيادة الانكشارية حق التقدم على بقية القواد، فهو يتلقى أوامره من الصدر الأعظم الذي جعل له السلطان القيادة العليا للجيش.
    وقد تميز عصر السلطان محمد الفاتح بجانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي، بإنشاءات عسكرية عديدة ومتنوعة، فأقام دور الصناعة العسكرية لسد احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات عسكرية متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان واعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال، وكان هناك صنف من الجنود يسمى " لغمجية " وظيفته الحفر للالغام وحفر الانفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد فتحها وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء ولقد تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات، وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين وقد أكسب هؤلاء العثمانيين شهرة عريضة في الدقة والنظام([15]).
    لقد حرص السلطان محمد على تطوير الجيش البري والقوة البحرية وظهرت أهميتها منذ فتح القسطنطينية، حيث كان للأسطول البحري العثماني دور واضح في احكام حصارها وتطويقها من البحر والبر جميعاً وبعد فتح القسطنطينية ضوعفت العناية بالسلاح البحري، فلم تمضي إلا مدة من الزمن حتى سيطر الأسطول العثماني على البحرين الأسود والأبيض وعندما نطالع كتاب ( حقائق الأخبار عن دول البحار ) لمؤلفه اسماعيل سرهنك، نلاحظ اهتمام السلطان محمد الفاتح بالبحرية العثمانية، وانه كان اهتماماً بالغاً استحق معه أن يعده المؤرخون مؤسس الاسطول البحري العثماني، ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوا أكبر الدول البحرية في ذلك الوقت([16]) وعندما وجد في سيئوب سفينة ضخمة نادرة المثال أمر السلطان محمد بأخذها وبناء سفن على نمطها مع ادخال التحسينات عليها([17]).
    وكان الأسطول العثماني تشرف الترسانة على إدارته وكانت احد فروع الخاصة وتسمى بطافة العزب، ويبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف جندي بحري تتألف من: القبطان، وقواد السفن، والضباط، والبحارة([18]).
    اهتمامه بالعدل:
    إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه - شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة ويمنحهم مرسوم مكتوب يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم وقد أعطى هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل مايرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان.
    وقد كانت تقرير هؤلاء المبعوثين النصارى تشيد دائماً بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس بدون محاباة أو تمييز، وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته.
    وكان على إدراك تام بأن رجال الفقه والشريعة هم أعرف الناس بالعدالة وأبصرهم بمواقعها وأشد الناس حرصاً على أنفاذها وكان يرأى أن العلماء في الدولة بمنزلة القلب في البدن، إذا صلحوا صلحت الدولة ولذلك اعتنى الفاتح بالعلم وأهله ويسر سبل العلم على طالبيه وكفاهم مؤونة التعيش والتكسب ليتفرغوا للدرس والتحصيل، وأكرم العلماء ورفع منزلتهم، وقد اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب بل لابد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس، وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة، فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة، وأحاط منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والجلالة والقداسة والحماية([19]).
    وتحدثنا كتب التاريخ: أن أحد غلمان محمد الفاتح ظهر منه بعض الفساد بأدرنة فأرسل إليه القاضي بعض الخدم لمنعه فلم يمتنع، فركب إليه القاضي بنفسه فاعتدى عليه الغلام وضربه ضرباً شديداً فما أن سمع السلطان الفاتح بذلك حتى أخذه الغضب واستطار به " وأمر بقتل ذلك الغلام لتحقيره نائب الشريعة. وتشفع الوزراء للغلام لدى السلطان الفاتح فلم يقبل شفاعتهم فالتمسوا من المولى محي الدين محمد أن يصلح هذا الأمر لدى السلطان، ولكن الفاتح أعرض عنه ورد كلامه فقال له المولى محي الدين : إن النائب ( أي القاضي بقيامه عن مجلس القضاء بسبب الغضب سقط عن رتبة القضاء فلم يكن هو عند الضرب قاضياً فلم يلزم تحقير الشرع حتى يحل قتله ( قتل الغلام ) فسكت السلطان محمد خان. ثم جاء الغلام إلى قسطنطينية فأتى به الوزراء إلى السلطان محمد خان لتقبيل يده شكراً للعفو عنه. فأحضر السلطان محمد خان عصاً كبيرة فضربه بنفسه ضرباً شديداً حتى مرض الغلام أربعة أشهر فعالجوه فبرئ ثم صار ذلك الغلام وزيراً للسلطان بايزيد خان واسمه داود باشا. وكان يدعو للسلطان محمد خان ويقول: إن رشدي هذا ما حصل إلا من ضربه([20]). أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل.
    وكان السلطان الفاتح - برغم اشتغاله بالجهاد والفتوحات إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة واهتمام وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي وكان كثيراً ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه([21]) كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورهان والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها، وقد استنبط السلطان الفاتح هذه المعاني من حال سليمان عليه السلام في قوله تعالى : { وتفقد الطير } وذلك بحسب ماتقتضيه أمور الملك، والاهتمام بكل جزء فيه، والرعاية بكل واحدة فيه وخاصة الضعفاء([22]) .

    avatar
    amraay2009
    ملازم
    ملازم


    العمر : 44
    عدد المساهمات : 148
    نقاط : 2525
    السٌّمعَة : 175
    تاريخ التسجيل : 19/07/2010

    السلطان محمد الفاتح Empty رد: السلطان محمد الفاتح

    مُساهمة من طرف amraay2009 الثلاثاء يوليو 20, 2010 4:10 pm

    المبحث السابع
    وصية السلطان محمد الفاتح لأبنه

    هذه وصية محمد الفاتح لأبنه وهو على فراش الموت والتي تعبر اصدق التعبير عن منهجه في الحياة، وقيمه ومبادئه التي آمن بها والتي يتمنى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها: (ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لاني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً ، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الاسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولاتفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لايهتمون بأمر الدين، ولايجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها وسع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك الى مال أحد من رعيتك إلا بحق الاسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل اكرامك للمستحقين .
    وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم ، واذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
    حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل الى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فان الدين غايتنا ، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
    خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي ، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير اهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، واكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك)([1]).
    1- (كن عادلاً صالحاً رحيماً):
    لقد قام محمد الفاتح بهذه المبادئ مع النصارى الذين اصبحوا من رعايا دولته وعندما دخل القسطنطينية فاتحاً كان يحارب حرب الاسلام (التي لاتهتك فيها حرمة، ولايقتل فيه صبي ولا شيخ ولا امرأة، ولايحرق فيها زرع، ولا يتلف فيها ضرع، ولايمثل فيها بإنسان، ولاتصيب إلا المقاتلين الذين يحملون السلاح في وجه المسلمين)([2]).
    كان "محمد الفاتح" وهو يمثل اسلامه وعقيدته ومنهجه الاسلامي في الحرب على تعاليم الصديق (ابي بكر) t في معاملته للروم (لاتخونوا، ولاتغلوا ولاتغدروا، ولاتمثلوا ، ولاتقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ، ولا تحرقوه، ولاتقطعوا شجرة مثمرة، ولاتذبحوا شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم ومافرّغوا أنفسهم له ... اندفعوا باسم الله)([3]).
    لقد دخل محمد الفاتح الى قلب العاصمة البيزنطية وأعطى عالم الغرب النصراني دروس في العدالة والرحمة وأصبحت معلماً من معالم التاريخ العثماني.
    إن الدولة العثمانية سارت على منهج الاسلام، فأخذت منه العدالة والرحمة بالرعايا الذين حكموهم ولقد تحدث عبدالرحمن عزام عن رحمة العثمانيين وعدالتهم بالشعوب التي حكموها فقال : (وقد يظن بعض الناس بما يتناقلون من احاديث أو فكاهات عن بعض العهود للدولة العثمانية أنها كانت دولة عظيمة، ولكن لم تكن صفة الرحمة مميزاتها، وهو خطأ شائع لا يقف أمام البحث والتدقيق... ولقد سمعت بنفسي حديث هذه الرحمة في "بسرابيا" من رومانيا على نهر "الدنيستز" وقيل لي : إن أمثلة الفلاحين في هذه الأطراف النائية للملك العثماني لا تزال تعبر عن رحمة التركي وعدله. ومنها مايشير الى أن العدل ينزع مع الأتراك من الأرض. وقد لفت نظري في بولونيا ورومانيا وفي بلاد البلقان في رحلاتي المتعددة أمثلة وأساطير لاتزال تشير الى ما استقر في نفوس هذه الأمم المسيحية من احترام التركي المسلم كرحيم عادل.
    وفي سنة 1917م كنت في فيينا فروي لي أن البوليونيين مستبشرون بوصول العساكر العثمانية الى جاليسيا مدداً للنمساويين)([4]).
    (... بأن العدل والرحمة الاسلامية هما اللذان مكنا للعثمانيين في أوروبا. وبالعدل والرحمة خرجت هذه الأمم من همجيتها وقسوتها وعرفت المساواة والإنصاف ، ويكفى أن تعلم أن استرقاق الطوائف بأشنع صورة كان نظاماً دولياً متعاهداً عليه في أوروبا الوسطى والجنوبية الى أن قضى عليه العثمانيون. وكانت هناك عهود دولية بين الملداف والبلونيين والمجر لتسليم كل فلاح يرحل من مزرعة سيده من "البويار" الى أحد هذه الأوطان، وكانت المزارع تباع بما عليها من الحيوانات والفلاحين.
    جاء العثمانيون الى أوروبا يحملون بين صدورهم عاطفة الرحمة كما أرادها صاحب الدعوة r ، ولم يكن الأتراك أكثر عدة ولا عدداً من أية أمة من الأمم التي سادوها، فوصلوا على رؤسهم جميعاً الى فيينا، تمهد لهم الرحمة صعاب الجبال والبحار والوهاد، كما مهدت للعرب قبلهم إفريقية وآسيا)([5]).
    إن محمد الفاتح سار على منهج الرحمة والعدالة وأوصى أحفاده من بعده أن يلتزموا نفس المنهج الذي يمثل حقيقة الاسلام.
    2- (وابسط على رعيتك حمايتك دون تمييز):
    وهذا ما قام به السلطان محمد بنفسه حيث حرص على حماية كل رعايا الدولة سواء مسلمين أو نصارى ومن القصص اللطيفة في هذا المعنى أنه كان على أهل جزيرة خيوس دين قدره أربعون ألف دوقة لتاجر من تجار "غلطة" يدعى فرانسسكوا درا بيريو ولما عجز هذا الدائن عن استرداد دينه من أهل الجزيرة رأى السلطان الفاتح أن يقوم هو بهذا الأمر بوصف أن هذا التاجر من رعاياه الذين يجب على الدولة العثمانية حمايتهم واستيفاء حقوقهم وأرسل الى الجزيرة عدة سفن بقيادة حمزة باشا إلا أن أهالي جزيرة خيوس قتلوا بعض الجنود ورفضوا الانقياد ودفع الحقوق. فقال محمد الفاتح للتاجر درالبيريو (أنا الذي سيتحمل دينك من أهل الجزيرة وسأطلب به مضاعفاً ثمناً لدم الجنود الذين هلكوا)([6]).
    وسير السلطان الى هذه الجزيرة اسطولاً وقام هو بقيادة الجيوش بنفسه الى الجزر القريبة منها وفتح اينوس بغير حرب ولا قتال وبادرت جزيرتا ايمبروس وساموتراس الى الاستسلام وفتحتا ابوابهما على مصاريعها للعثمانيين، فاضطرت جزيرة خيوس الى دفع ماعليها من دين للتاجر الجنوي ودفعت للسلطان جزية سنوية قدرها ستة آلاف دوقة، ودفعت له فوق ذلك تعويضاً للسفن العثمانية التي غرقت([7]).
    إن حماية الرعية والحفاظ على حقوقهم من واجبات الدولة الاسلامية.
    3- (واعمل على نشر الدين الاسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك
    على الأرض)
    كان السلطان محمد الفاتح في حروبه لاينسى أنه داعية الى الاسلام ولذلك كان يشجع قواده وجنوده على نشر الدين والعقيدة والاسلام ويثنى على القادة الذين تفتح المدن على أيديهم ، فعندما أمر قائده عمر بن طرخان أن يزحف بجيشه الى أثينا واستولى عليها ويضمها الى الدولة العثمانية وتحرك القائد عمر بجيشه واضطرت المدينة للتسليم وزار السلطان الفاتح المدينة بعد عامين من فتحها وقال : (ما أعظم مايدين به الاسلام لابن طرخان).
    لقد اهتمت الدولة العثمانية بالدعوة الى الله وتركت بصماتها قوية واضحة في مجال نشر الدعوة في أوروبا؛ فعلى امتداد قرون وتعاقب عصور ودهور ظلت جماعات اسلامية تقاوم شتى انواع الضغوط التي بذلت لتحويلها الى المسيحية ولازالت هذه الاقليات الاسلامية تعيش الى يومنا هذا في بلغاريا ورومانيا وألبانيا واليونان ويوغسلافيا يصل أعدادها الى الملايين من البشر([8]) وهذا يرجع الى فضل الله على تلك الشعوب ثم الى سياسة السلاطين العثمانيين الذين يحرصون على هداية الناس ودخولهم في الاسلام.
    4- (قدم الإهتمام بأمر الدين على كل شيء ولا تفتر في المواظبة عليه):
    إن سلاطين الدولة العثمانية قبل زمن محمد الفاتح وبعده نشأوا نشأة اسلامية، خالصة، مشوبة بإيمان عميق، متوجهة الى أهداف عقائدية صريحة، خاضوا من أجلها حروباً دينية شديدة، وكانت أجمل عبارة على ألسن العثمانيين عند التنادي للجهاد الزحف الى الفتوحات إما غاز وإما شهيد، فمنذ بداية تأسيسها أطلق على زعيمها لقب الغازي - أي المجاهد في سبيل الله- وظل هذا اللقب الرفيع يتقدم كل الألقاب والنعوت بالنسبة للسلاطين العظام ، وكانت غاية الدولة العثمانية (الدفاع عن الاسلام ورفع رايته على الآنام).
    لذلك صبغت الدولة شعباً وسلطاناً ، حكومة وجيشاً ثقافة وتشريعاً ، نهجاً وضميراً، هدفاً ورسالة، بصبغة اسلامية خالصة منذ النشأة وعلى مدى سبعة قرون لقد كان اهتمام السلاطين بأمر الدين عظيماً وقدموه على كل شيء وواظبوا عليه الى أقصى حدود وأكدوا أنهم لاينتسبون إلا للإسلام وتراثه وحضارته وكان الوطن عندهم هو كل أرض يسكنها المسلمون، وكلمة الملة تعني الأمة والدين معاً، وذلك كان هدف المنهج التربوي في جميع المدارس والجامعات والمعاهد، تصاغ به نفوس الناشئة منذ بداية تعليمهم في الكتاتيب وجميع المسلمين كانوا يسجلون في دوائر النفوس - سجلات المواليد- وفي التذاكر العثمانية -بطاقات الهوية- كمسلمين فحسب، دون أن يذكر الى جانب ذلك فيما إذا كانوا من الاتراك، أو من العرب أو من الشراكسة أو الألبان أو الأكراد إن مايهم الدولة كان ينحصر في ملتهم في ديانتهم ؛ إنهم مسلمون وكفى، واعتبر العثمانيون أي مقاتل مسلم جاهد في سبيل الله ميراثهم البطولي وخلفيتهم التاريخية، وإن تباينت الأنساب، وتباعدت الأزمان؛ من ذلك المجاهد "عبدالله البطال" الذي استشهد في معركة أكرنيون في آسيا الصغرى عام 122 للهجرة، زمن الدولة الأموية والذي يقول عنه الطبري وهو يعلق على حوادث سنة 122هـ : (وفيها قتل عبدالله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم)([9]).
    يعتبره العثمانيون بطلهم القومي وبين "عبدالله البطال" العربي وقيام الدولة العثمانية مايقرب من سبعمائة عام، لقد كان تاريخ العثمانيين وأبطال العثمانيين، نسب الإسلام ، وتاريخ الاسلام، ومجاهدي الاسلام([10]).
    إن سلاطين الدولة العثمانية كانوا يلقبون بكثير من الألقاب والنعوت التي تبين أن هدفهم الأكبر ومقصدهم الأسمى هو خدمة دين الله تعالى، فكانوا يلقبون بمثل سلطان الغزاة، والمجاهدين ، وخادم الحرمين الشريفين، وخليفة المسلمين)([11]).
    5- (ولا تستخدم الأشخاص الذي لايهتمون بأمر الدين ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش):
    ولذلك أهتم سلاطين الدولة العثمانية بإنشاء جامعات لتخريج قادة للجيش وللوظائف المهمة في الدولة ووضعوا منهجاً تربوباً لأعداد القادة وخصوصاً في داخل الجيوش وحرصوا على أن يختاروا لمناصب الدولة الأمناء والأكفاء أصحاب العقول والنهى والتقى وأسندوا إليهم الولايات والقيادات في الجيوش ومناصب القضاة، وباعدوا عنهم كل من لايهتم بأمر الدين، ويجتنب الكبائر والفواحش هكذا كان السلاطين الأوائل.
    6- (جانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها):
    إن السلاطين العثمانيين الأوائل ساروا على منهج أهل السنة والجماعة وعرفوا خطورة البدع والاقتراب من أصحابها واكتفوا بكتاب الله وسنة رسوله r واجماع الأمة واجتهادات العلماء الراسخين.
    إن الشريعة الاسلامية الغراء التي سار عليها السلاطين العثمانيون ذمت البدع.
    قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (سورة الانعام: الآية 153).
    وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (سورة الانعام : آية 159).
    قال ابن عطية : (هذه الآية تعمّ أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزّلل، ومظنة لسوء المعتقد)([12]).
    وفي الحديث الشريف قال r : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)([13]).
    وفي الصحيح عن حذيفة أنه قال : يارسول الله: هل بعد هذا الخير شر؟
    قال : (نعم ؛ قوم يستنُّون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي).
    قال : قلت : هل بعد ذلك الشرِّ شرُّ؟
    قال : (نعم؛ دعاة على نار جهنم ، من أجابهم قذفوه فيها).
    قلت : يارسول الله : صِفْهم لنا.
    قال : (نعم ؛ هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا) .
    قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟
    قال : (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم).
    قلت: فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟
    قال : (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك)([14]).
    وعن ابي بكر الصديق t قال : (لست تاركاً شيئاً كان رسول الله r يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ)([15]).
    إن الابتعاد عن المبتدعة ومحاربتهم من صميم الدين ، لأن المبتدع:
    - لايقبل منه عمل، وينزع منه التوفيق، وملعون على لسان الشريعة ، ويزداد من الله بعداً، مانعة من شفاعة الرسول r يوم القيامة، مظنة العداوة والبغضاء بين أهل الاسلام، رافع للسنن، يلقى عليه الذل في الدنيا والآخرة، ويخاف عليه من سوء الخاتمة، ويسود وجهه في الآخرة، ويخشى عليه من الفتنة)([16]).
    ولذلك كانت وصية السلطان محمد -رحمه الله- لمن بعده (جانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها).
    7- وسع رقعة البلاد بالجهاد:
    إن السلاطين العثمانيين الأوائل قاموا بتوسيع رقعة الدولة بالجهاد وبسطوا الامن وقمعوا الاخطار التي هددت دولتهم، وعملوا على تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا يستطيع الاعداء أن يظفروا بثغرة أو ينتهكوا محرماً ويسفكوا دماً مسلماً أو معاهداً، وعمل السلطان محمد ومن قبله على إعداد الأمة إعداداً جهادياً وقام بواجبه في جهاد الكفرة المعاندين للاسلام حتى يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين ولقد صبغ المجتمع العثماني بالصبغة الاسلامية الجهادية الدعوية وكان أفراد الجيش يعدون للحياة الجهادية العنيفة، منذ نعومة أظافرهم، إعداداً دقيقاً، كاملاً ولقد حققت الجيوش العثمانية انتصارات رفيعة في الساحات الأوروبية([17])، لقد (حققت الدولة العثمانية الى عهد سليمان القانوني آمالاً عظيمة كان يستهدفها المسلمون منذ تسعة قرون برفع الراية المحمدية على قلاع كثير من العواصم الكبرى في أوروبا وإخضاع كثير من المماليك والامارات للحكومة الاسلامية وأخذ ظل الاسلام يمتد حتى أوشكت جيوش المسلمين في شرق أوروبا وغربها أن تلتقي في الأرض الكبيرة)([18]).
    ومن المؤتمر السابع لوزراء خارجية الدول الاسلامية في استنابول ألقي المجاهد البروفسور المهندس نجم الدين أربكان خطاباً استرجع فيه صدى الماضي الاسلامي الذي مثلته الدولة العثمانية فقال: (... إن هذا القصر الذي شاء الله أن يعقد فيه هذا المؤتمر الاسلامي الكبير وقد نقشت على بابه كلمة الاسلام الجامعة: "لا إله إلا الله" .. هو قصر السلطان محمد الفاتح الذي بناه عقب فتح استنبول.. كيف لايكون هذا المكان تاريخياً ومنه كانت تدبر شؤون العالم الاسلامي ردحاً من الزمن؟ وكيف لايكون لتاريخنا ومنه كانت تنطلق جيوش المسلمين الى جميع أنحاء الدنيا، مجاهدة في سبيل الله، تنشر النور والهداية والعدل أينما حلت وحيثما ضربت.. كيف لايكون تاريخياً وفوق هذا الحجر الذي يرتكز عليه الميكرفون كانت تنصب رايات الجيوش الاسلامية، المنطلقة للذب عن ديار المسلمين جميعاً.. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر : أن قرار إرسال الاسطول الاسلامي للحيلولة دون وقوع كل من أندونيسيا والفلبين في براثن الاستعمار الهولندي اتخذ من هذا المكان ، وفيه أيضاً اتخذت قرارات إرسال الجيوش والأساطيل الاسلامية لحماية شمال أفريقيا من الغزاة الطامعين.
    وفوق هذا كله فإن هذا البناء التاريخي يضم بين جدرانه لواء الرسول الأعظم r وبردته المباركة وسيوفه وكثيراً من آثاره الشريفة ...)([19]).
    لقد كانت الدولة تعطي لمبدأ الجهاد أهمية قصوى ولذلك أعدت شعبها وجيشها لتحقيق هذا المبدأ الرباني وحققت من خلاله ثمرات مهمة الاسلام والمسلمين من أهمها:
    - إعزاز المسلمين وإذلال الكافرين.
    - دخول الناس في دين الله فواجا([20]).
    - إسعاد الناس بنور الاسلام وعدله ورحمته.
    لقد انصبغت الدولة العثمانية بالروح الجهادية ووضعت أهدافاً لها من أهمها:
    - إقامة حكم الله ونظام الاسلام في الأرض.
    - دفع عدوان الكافرين.
    - إزاحة الظلم عن الناس.
    - نشر الدعوة الإسلامية بين البشر([21]).
    8- (واحرس أموال بيت المال من أن تتبد):
    إن السلاطين العثمانيين كانوا يرون أن الدولة هي الهيئة التنفيذية والمعبرة عن رأي الأمة، والمكلفة بحماية مصالحها، فمسؤلية الدولة ليست خاصة بالأمن والدفاع وإنما هي مسؤولة عن رعاية المصالح الاجتماعية وحماية بيت المال من الاسراف والتبذير والمحافظة على مصادر وموارد بيت المال وأهم موارد بيت المال:
    - جمع الزكاة المفروضة وتوزيعها في مصارفها المشروعة .
    - ترتيب الخراج على أملاك الدولة المعمورة وتحصيل عائدته للإنفاق العام على الجيش وتنمية المرافق العامة.
    - جباية الجزية على المعاهدين مقابل إعفائهم من القتال مع المسلمين .
    - تحصيل عشور التجارة على الواردات من خارج نطاق الدولة العثمانية.
    - التوظيف بقدر الحاجة على افراد الأمة سواء كان تطوعياً أو ألزامياً لإنفاقها في دروب الجهاد وسائر المصالح العامة طبقاً لقاعدة المصالح المرسلة.
    - تشغيل الموارد وحمايتها كالحمى والمناجم وإحياء الموات، وتحصيل أنصبة الدولة منها لاستخدامها في مجالات الإنفاق الحكومي([22]).
    وعلى الدولة أن تراقب النشاط الاقتصادي وتحرص على تطبيق أحكام الشريعة فيه، وتشمل:
    - ضبط المقاييس والمواصفات المعيارية التي يحتاجها الناس في أسواقهم مثل المكاييل والموازيين، ومواصفات البضائع الجيدة.
    - منع الغش ، وإبطال العقود الفاسدة في البيع والعمل (الاستضاع).
    - الأمر بالمعروف في المعاملات كالصدق والعدل والوفاء في المعاملة كالبيع والشراء والنهي عن المنكر في البيوع كالحلف الكاذب على السلعة .
    - منع تلقي الركبان والمناجشة في البيع والتدليس والغبن الفاحش وغيره من الأساليب التي تؤدي الى العداوة والبغضاء بين الناس.
    - منع ترويج المحرمات كالخمر والخنزير وآلات القمار والميسر، ووسائل اللهو المؤدي الى تمويت القلوب.
    - منع مظاهر الترف والإسراف ، والتشجيع على نبذها([23]).
    9- (وإياك أن تمد يدك الى أحد من أموال رعيتك إلا بحق الاسلام):
    إن وظيفة الدولة تنفيذ أوامر الشريعة والشريعة جاءت لحفظ أموال الناس التي هي قوام حياتهم. وقد حرم الاسلام كل وسيلة لأخذ المال بغير حق شرعي، قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (سورة البقرة: آية188).
    وحرم السرقة وأوجب الحد على من ثبتت عليه تلك الجريمة فقال تعالى : {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله...} (سورة المائدة: آية 38). وكذلك حرم الاسلام الربا الذي يهدد مصالح الأفراد واقتصاد الدول، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} (سورة آل عمران: آية 130).
    وحرم كذلك الغش والاحتكار والنهب والاختلاس والغلول وغير ذلك من أشكال الاعتداء على المال وكل ذلك داخل في أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه.
    ووظيفة الحاكم حماية أموال الرعية من السرقة والنهب لا أن يمد يده بغير وجه حق ويعتدي على أموال الناس .
    10- ( واضمن للمعوزين قوتهم وابذل أكرامك للمستحقين):
    كان السلاطين العثمانيون يتسابقون في الإحسان للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ..وكل من هو محتاج الى البر والإحسان وقامت الدولة بأعمال جليلة في هذا الباب بل أوقف السلاطين والوزراء أوقافاً عظيمة على طلاب العلم والفقراء والمساكين والأرامل وغير ذلك وكان الوقف ركناً اساسياً في اقتصاد الدولة يقول الاستاذ محمد حرب : (... نشطت الحركة العلمية في جوامع استنبول([24]) ... وكان صقوللي محمد باشا -على سبيل المثال- ينفق على الحركة العلمية في استانبول من دخل وقف 2000 قرية عثمانية في تشيكوسلوفاكيا (وكانت تابعة للدولة العثمانية) وأسعد أفندي قاضي عسكر الروملي (يعني البلقان) أوقف وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن الى سن الزواج. وكان لدى العثمانيين أوقاف كثيرة ومتعددة ؛ مثل آخر كانت هناك أوقاف بصرف مرتبات للعائلات المعوزة -غير الأكل- لأن الأكل المجاني له أوقاف عامة أخرى تسمى (عمارت وقفي) أي وقف المطاعم الخيرية وكانت الـ(عمارات) تقدم أكلاً مجانياً لعدد يبلغ 20.000 شخص يومياً مجاناً، وكان مثل هذا في كل الولايات...)([25]).
    وكان المطعم الخيري بجامع السليمانية تبلغ ميزانيته عام 1586م ما يعادل (10) عشرة ملايين دولار أمريكي إلا قليلاً([26]).
    وهكذا كانت سياسة الدولة على مستوى السلاطين والامراء والوزراء تضمن للمعوزين قوتهم وتكرم المستحقين بالإكرام.

    11- (وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة فعظم جانبهم وشجعهم واذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال...):
    لقد أهتم السلطان محمد الفاتح بترتيب وظائف العلماء في الجوامع الكبرى ووضع لها تقاليد سابقة ونظمها بمرسوم خاص واهم الوظائف في المساجد الكبرى: الخطيب والإمام ، والقيم والمؤذن ويقوم المرشحون لهذه الوظائف بطلب العلم في المدارس الدينية الكبيرة التي كثيراً ما كان السلاطين والوزراء يتنافسون على تشييدها تنافساً نبيلاً ويخضع الموظفون الدينيون في العاصمة لسلطة المفتي مباشرة ولكان ينوب عنه في الولايات الكبرى قضاة العسكر؛ أما في الولايات الصغرى فكان الإمام يقوم بكافة المهام الدينية وخاصة في الأرياف.
    وكانت المدارس التي تعد الموظفين الدينيين يوجد بها ثلاثة فئات من طلبة العلم: فا(الصوفتا) وهي أدناها تليها فئة المعيدين الذي يحمل الطالب عند التخرج منها لقب (دانشمند) أو عالم. أما الفئة الأعلى فهي منصب المدرس، وبلغ عدد الصوفتا في عهد السلطان مراد الثاني 90 ألفاً. وكانوا كثيراً ما يكون لهم أثر في شؤون الدولة([27]).
    وقد استحدث محمد الفاتح لقب شيخ الإسلام وهو الذي يترأس الهيئة الإسلامية في الدولة، وهو يلي السلطان في الأهمية. وكان التشريع والمحاكم والمدارس الملحقة بالمساجد وممتلكات الأوقاف الواسعة جميعها خاضعة له، كما كان خاضعاً له القضاة الشرعيون والقضاة العسكريون والمفتون. وكانت الأولوية في بداية نشأة الدولة العثمانية لقاضي عسكر الذي رافق الجيش المحارب، ثم صارت للمفتي رئيس العلماء والفقهاء في عهد السلطان سليمان القانوني وأصبح المفتي هو شيخ الإسلام نفسه، وحرص السلاطين على تدعيم سلطة شيخ الإسلام فكانوا يلجؤون الى استغلال سلطته والإفادة منها كلما تعرضوا لأزمة خطيرة. وبلغ من ازدياد سلطة شيخ الإسلام أنه كان يحق له إصدار فتوى بعزل السلطان نفسه([28]).
    كما كانت الدولة لاتقدم على حرب دون صدور فتوى منه يقرر فيها أن أهداف هذه الحرب لاتتعارض مع الدين وكانت أحكام المفتي نهائية لامعقب عليها وكان الجهاز الإسلامي المنبث في جسم الدولة يضم الأشراف وهم الذين ينحدرون من سلالة الرسول r، وكان نقيب الأشراف يحتل مكانة عالية في المجتمع([29]).
    لقد قامت الدولة العثمانية بتأسيس جهاز للهيئة الدينية الإسلامية وحرصت على أن تمتد جذورها في أوساط الشعب والجيش وكل رعايا الدولة المسلمين وقد أصبحت أفراد هذه الهيئة يتولون مناصب القضاء والإفتاء وتدريس علوم الدين واللغة والمشاركة على نحو مافي إدارة الأوقاف الخيرية وإقامة الدينية والإشراف على المساجد والمؤسسات الدينية والخيرية مثل التكايا والأسبلة وغيرها وكان أفراد من الهيئة الدينية الإسلامية الحاكمة يصحبون شتى فرق الجيش إلى ميادين القتال ويقومون قبل المعركة بتسخين الجنود روحياً ابتغاء رفع روحهم المعنوية ويضربون للجنود أروع الأمثلة على استبسال الجنود المسلمين في صدر الإسلام حين انطلقوا على موجات بشرية متلاحقة من قلب شبه الجزيرة العربية واتجهوا شرقاً إلى العراق وفارس، وشمالاً إلى بلاد الشام، واتجهوا إلى مصر ثم شمال إفريقية، وعبروا البحر المتوسط إلى الأندلس. ويذكرون لهم الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تدور حول الجهاد الديني والفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد. ويشرحون لهم مواقف الصحابة واسترخاصهم الموت حتى استطاعت الجيوش الإسلامية وقتذاك أن تدك معاقل دولة الفرس والدولة البيزنطية، كما كان رجال الهيئة الدينية الإسلامية يؤمون الجنود في صلاة الخوف وهم في ساحات القتال.. ([30]).
    كان علماء الدولة الذين قادوا الهيئة الدينية ينظرون إلى السلطان على أنه يعتبر إماماً للمسلمين وتجب عليهم طاعة السلطان بصفته ولي الأمر كما يأمرهم سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا .. } ( سورة النساء، آية: 59 ).
    وكانوا يعتقدون ليس لولي الأمر طاعة فيما وراء الشريعة لأن الطاعة لهم تبعية، وليست أصلية، إنها طاعة مستمدة من أصل، وليست هي بذاتها أصلا. وقد أشار إلى هذا المعنى أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين في أول خطبة عامة ألقاها بعد مبايعته بالخلافة أوضح فيها منهجه في الحكم وكان مما جاء في هذه الخطبة المشهورة قوله: " أيها الناس إني وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.. "([31]).
    وهكذا طلب أبو بكر من جموع المسلمين طاعته طالما كان سائراً على هدى الله وسنة رسوله. لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
    وكان العلماء وعلى رأسهم شيخ الإسلام يعتمدون على الشريعة عند الخلاف مع السلطان أو الصدر الأعظم ولايسمحون لهم أن ينحرفوا عن مبادئ الشريعة([32]) وكان الشعب يقف معهم ويلتحم معهم في القضايا المصيرية، لأن العلماء كانوا يملكون القوتين الروحية والأدبية اللتين تمثلتا في ممارسة أعمال القضاء والإفتاء والإمامة والإشراف على المساجد وإقامة الشعائر الدينية وإدارة المؤسسات الخيرية، ونشاطهم في مجالات التعليم بشتى درجاته وعلى قمتها الدراسات العليا في الكليات حيث كانوا يقومون بتدريس علوم الشريعة الإسلامية وأصول الدين ولذلك كانوا أكثر التفافاً برجل الشارع وأكثر تفاهماً وتعاطفاً وتجاوباً مع الأهلين([33]).
    12: ( حذارِ حذارِ لايغرنك المال ولا الجند وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا):
    إن السلطان محمد الفاتح يحذر وليه من بعده أن ينغمر بالمال أو الجند ويبين له خطورة ابعاد العلماء والفقهاء عن الحاكم، كما يحذره من أن يخالف أحكام الشريعة، لأن ذلك يجلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا وهلاكاً وعذاباً في الآخرة وإن آثار الابتعاد عن شرع الله وأحكامه تبدو على حياة الأمة في وجهتها الدينية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
    وإن الفتن تظل تتابع وتتوالى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم قال تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ( سورة النور، الآية: 13 ). إن من الآثار عن الابتعاد عن أحكام الشريعة أن تصاب الأمة بالتبلد وفقد الاحساس بالذات وموات ضميرها الروحي فلا أمر بمعروف تأمر به ولا نهي عن منكر تنهى عنه ويحدث لها ماحدث لبني إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون..} ( سورة المائدة، الآيات 78-79 ).
    فإن أي أمة لاتعظم شرع الله أمراً ونهياً فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل: قال رسول الله r : ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأْخُذْنَّ ثم لتأْخُذْنَّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق اصراً، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعنكم كما لعنهم )([34]).
    وعندما تتغير النفوس من الطاعة والانقياد لأحكام الله إلى المخالفة والتمرد على أحكام الله تتحقق فيهم سنة الله الماضية بسبب تغير النفوس : { ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ( سورة الأنفال : آية 53) كما يترتب على ذلك توقف حركة الفتوح الإسلامية وتحرم شعوب كثيرة من سعادتها في الدنيا والآخرة بسبب تضييع أحكام الشريعة وارتكاب ما يخالفها من أفعال قبيحة وتحدث الحروب فيما بين المسلمين وتكثر الاعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض كما يقوى الأعداء وتشتد شوكتهم ويغيب نصر الله على الإسلام والمسلمين ويحرموا من التمكين ويصبحوا في خوف وفزع وجوع، وتضيع المدن والقرى ويتسلط عليها الأعداء وتتوالى المصائب وهذا ما حدث في تاريخ الدولة العثمانية المتأخر.
    إن من سنن الله تعالى المستنبطة من حقائق الدين وأحداث التاريخ أنه إذا عصي الله تعالى ممن يعرفونه سلّط عليهم من لايعرفونه كما حدث في تسليط النصارى على المسلمين في الأندلس([35]) وكما فعل اليهود والانجليز والروس.. في تفتيت الدولة العثمانية.
    إن السر في قوة العثمانيين وعزهم وشرفهم كامنة في طاعة الله وتنفيذ أحكامه، والالتزام بشريعته والجهاد في سبيله والدعوة إليه ولذلك قال محمد الفاتح لابنه ( فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا ).
    13- ( واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ) :
    إن تعزيز هذا الدين وإقامته في الأرض يحقق نتائج طيبة في حياة الأمة والدولة، ومن هذه النتائج تهذيب النفس من الشرور والآثام وترويضها على الخير، لذا كان الوازع الديني ثمرة من ثمار تعزيز هذا الدين ويكون مانعاً من ارتكاب الجريمة ومحاسبة النفس عليها، ويكون ماثلاً أمام العين مما يجعل النفس تخشى الله وتتقيه دائماً وأبداً كما أن تعزيز الدين وإقامة الشرع يحقق المساواة بين الراعي والرعية في الحقوق والواجبات وتنشر العدالة في الدولة الإسلامية لجميع ساكنيها، كما أن في تطبيق الشريعة نزول البركة، وتوالي النعم، إذ ليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة وطريق مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة، وفي تطبيقها بركات في النفوس وبركات في المشاعر وبركات في طيبات الحياة، فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، ومن نتائج تطبيقها بناء مجتمع إسلامي معتز بدينه وعقيدته بما التزمه من سلوك مصدره كتاب الله وسُنة رسوله r ففيهما المواد اللازمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة والدولة المسلمة كما أن من النتائج حفز الهمم، وبعث النفوس إلى الأخذ بأسباب العلم والحضارة والرقي والتقدم لما تضمنته تلك الشريعة من الدعوة إلى الحياة كما أنها تتضمن نبذ عفن الحياة الحضاري لمجتمعات الرذيلة أياً كانت وأينما وجدت([36]).
    إن الناس يحتاجون إلى العلماء الربانيين ليعلموهم دينهم ويربون نفوسهم على طاعة الله ولذلك لابد من القيادة الإسلامية من احترامهم وتقديرهم وإكرامهم، فهم الذين يبينون للناس حكم الله ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد الإسلام الكلية قال تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون }.
    14- (ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو أو أكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك ):
    إن هذه الوصية ترشد ولي عهد السلطان محمد الفاتح إلى الاعتدال والتوسط في الاستهلاك وهذه الوصية فهم لأمر الله ورسوله بالقصد والتوسط ولقد أنزل الله كثيراً من الآيات التي تمتدح في التفقه وذم ماسواه من البخل والشح والتبذير والإسراف والترف قال تعالى: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً } ( الإسراء: 29 ). وقال تعالى يصف المؤمنين : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (سورة الفرقان، الآية: 67 ).
    إن السلطان محمد الفاتح يرى وجوب ابتعاد الحاكم ودولته عن الإسراف لأن فيه معصية الله ورسوله.
    إن الدولة العثمانية كدولة مجاهدة كانت لها خطة اقتصادية لتدبير موارد الأمة في ظروف الحرب لتأمين احتياجات جيشها، وتوفير الحاجات الضرورية لشعبها من السلع والخدمات ولذلك كان السلاطين الأوائل في الدولة العثمانية يمنعون الإسراف والتبذير في القطاع الحكومي والقطاع الخاص وكانت الدولة ترشد الاستهلاك العام والخاص حتى لاتقع الأمة في أزمات اقتصادية خلال الحرب التي تسبب في هزائم الأمم، فكانت الدولة بالتعاون مع قطاعات أخرى حكومية وشعبية تقوم بما يلي:
    1- توفير الأموال اللازمة للإنفاق على الحرب، وعلى ضروريات المجتمع من الغذاء والدواء والحماية.
    2- توفير الإمدادات اللازمة خلال الحروب والأزمات.
    3- تعويض النقص من مخزون السلع والأجهزة الحيوية من الإنتاج المحلي بقدر الإمكان.
    4- السيطرة على التضخم في الأسعار الذي يصاحب عادة حالات الحرب.
    5- التوزيع العادل للسلع والخدمات الضرورية بما يؤمن حد الكفاية لكل فئات المجتمع([37]).
    إن الدول التي تقع في الترف واللهو وتصرف أموالها، في غير محلها مآلها إلى الهلاك والدمار. ولقد أدى الترف إلى انغماس بعض السلاطين المتأخرين في حياة الفسق واللهو بحيث يقضون أوقاتهم في الملذات وقضاء أوقاتهم بين الحريم وقد أدى ذلك إلى الابتعاد عن أمور الحكم وتركها للصدور العظام وللحريم، فانعكس ذلك على ضعف السلاطين، وعدم قدرتهم على تسيير أمور الدولة وقيادة الجيش، مما أثر على أوضاع الدول وأدى إلى ضعفها ثم اضمحلالها وضياعها فيما بعد([38]).
    وفاة السلطان محمد الفاتح وأثرها على الغرب والشرق
    في شهر الربيع من عام 886هـ - 1481م غادر السلطان الفاتح القسطنطينية إلى آسيا الصغرى حيث كان قد أُعد في اسكدار جيش آخر كبير. وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه من استنبول قد أصابته وعكة صحية إلا أنه لم يهتم بذلك لشدة حبه للجهاد وشوقه الدائم للغزو وخرج بقيادة جيشه بنفسه، وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاء لما يلم به من أمراض إلا أن المرض تضاعف عليه هذه المرة وثقلت وطأته بعد وصوله إلى اسكدار فطلب أطباءه. غير أن القضاء حم به فلم ينفع فيه تطبيب ولا دواء، ومات السلطان الفاتح وسط جيشه العرمرم يوم الخميس الرابع من ربيع الأول 886هـ ( 3 مايو 1481م ) وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم نيفاً وثلاثين عاماً([39]).
    وبعد أن ذاع نبأ الوفاة في الشرق والغرب، أحدث دوياً هائلاً اهتزت له النصرانية والإسلام، أما النصرانية فقد غمرها الفرح والابتهاج والبشرى وأقام النصارى في رودس صلوات الشكر على نجاتهم من هذا العدو المخيف([40]) وكانت جيوش الدولة العثمانية قد وصلت إلى جنوب إيطاليا لفتح كل ايطاليا وضمها للدولة العثمانية إلا أن خبر الوفاة وصلهم فانتاب الجنود هم شديد وحزن عميق واضطر العثمانيون في الدخول لمفاوضات مع ملك نابولي لينسحبوا آمنين على حياتهم وامتعتهم وعتادهم وتمّ الاتفاق على ذلك إلا أن النصارى لم يفوا بما تعهدوا واعتقلوا بعض الجنود الذين كانوا في المؤخرة وصفدوهم بالحديد([41]).
    وعندما وصل خبر وفاة السلطان إلى روما ابتهج البابا وأمر بفتح الكنائس وأقيمت فيها الصلوات والاحتفالات، وسارت المواكب العامة تجوب الشوارع والطرقات وهي تنشد أناشيد النصر والفرح بين طلقات المدافع وظلت هذه الاحتفالات والمهرجانات قائمة في روما طيلة ثلاثة أيام، لقد تخلصت النصرانية بوفاة محمد الفاتح من أعظم خطر كان يهددها([42]).
    لم يكن أحد يعلم شيئاً عن الجهة التي كان سيذهب إليها السلطان الفاتح بجيشه، وذهبت ظنون الناس في ذلك مذاهب شتى. فهل كان يقصد رودس ليفتح هذه الجزيرة التي امتنعت على قائده مسيح باشا؟ أم كان يتأهب للحاق بجيشه الظافر في جنوبي إيطاليا ويزحف بنفسه بعد ذلك إلى روما وشمالي إيطاليا ففرنسا وإسبانيا ؟
    لقد ظل ذلك سراً طواه الفاتح في صدره ولم يبح به لأحد ثم طواه الموت بعد ذلك([43]).
    لقد كان من عادة الفاتح أن يحتفظ بالجهة التي يقصدها ويتكتم أشد التكتم ويترك أعداءه في غفلة وحيرة من أمرهم، لايدري أحدهم متى تنزل عليه الضربة القادمة ثم يتبع هذا التكتم الشديد بالسرعة الخاطفة في التنفيذ فلا يدع لعدوه مجالاً للتأهب والإستعداد([44]) وذات مرّة سأله أحد القضاة أين تقصد بجيوشك فأجابه الفاتح : " لو أن شعرة في لحيتي عرفت ذلك لنتفتها وقذفت بها في النار ... "([45]).
    إن من أهداف الفاتح أن يمضي بفتوحات الإسلام من جنوب إيطاليا إلى أقصاها في الشمال ويستمر في فتوحاته بعد ذلك إلى فرنسا وأسبانيا وماوراءها من الدول والشعوب والأمم.
    لقد تأثر المسلمون في العالم الإسلامي لوفاة محمد الفاتح وحزنوا عليه حزناً عميقاً وبكاه المسلمون في جميع أقطار المعمورة، لقد بهرتهم انتصاراته، واعاد إليهم سيرة المجاهدين الأوائل من السلف الصالح([46]).
    قال عن وفاته عبدالحي بن العماد الحنبلي في وفيات سنة ست وثمانين وثمانمائة : ( .. كان من أعظم سلاطين بني عثمان وهو الملك الضليل الفاضل النبيل العظيم الجليل أعظم الملوك جهاداً وأقواهم اقداماً واجتهاداً وأثبتهم جأشاً وقواداً وأكثرهم توكلاً على الله واعتماداً وهو الذي أسس ملك بني عثمان وقنن لهم قوانين صارت كالأطواق في أجياد الزمان وله مناقب جميلة ومزايا فاضلة جليلة وآثار باقية في صفحات الليالي والأيام ومآثر لايمحوها تعاقب السنين والأعوام وغزوات كسر بها أصلاب الصلبان والأصنام من أعظمها أنه فتح القسطنطينية الكبرى وساق إليها السفن تجري رخاءً براً وبحراً هجم عليها بجنوده وأبطاله وأقدم عليها بخيوله ورجاله وحاصرها خمسين يوماً أشد الحصار وضيق على من فيها من الكفار الفجار وسل على أهلها سيف الله المسلول وتدرع بدرع الله الحصين المسبول ودق باب النصر والتأييد ولج ومن قرع باباً ولج ولج وثبت على متن الصبر إلى أن أتاه الله تعالى بالفرج ونزلت عليه ملائكة الله القريب الرقيب بالنصر العزيز من الله تعالى والفتح القريب ففتح استنبول في اليوم الحادي والخمسين من أيام محاصرته وهو يوم الأربعاء العشرين من جمادي الآخرة سنة سبع وخمسين وثمانمائة وصلى في أكبر كنائس النصارى صلاة الجمعة وهي أيا صوفيا وهي قبة تسامى قبة السماء وتحاكي في الاستحكام قبب الاهرام ولا وهت ولا وهت كبراً ولاهرماً وقد أسس في استنبول للعلم أساساً راسخاً لايخشى على شمسه الأفول وبنى مدارس كالجفان لها ثمانية أبواب سهلة الدخول وقنن بها قوانين تطابق المعقول والمنقول فجزاه الله خيراً عن الطلاب ومنحه بها أجراً وأكبر ثواب فإنه جعل لهم أيام الطلب مايسد فاقتهم ويكون به من خمار الفقر افاقتهم وجعل بعد ذلك مراتب يترقون اليها ويصعدون بالتمكن والاعتبار عليها إلى أن يصلوا إلى سعادة الدنيا ويتوسلون بها أيضاً إلى سعادة العقبى وأنه رحمه الله تعالى استجلب العلماء الكبار من أقصى الديار وأنعم اليهم وعطف باحسانه اليهم كمولانا علي القوشجي والفاضل الطوسي والعالم الكوراني وغيرهم من علماء الإسلام وفضلاء الأنام فصارت استنبول بهم أم الدنيا ومعدن الفخار والعليا واجتمع فيها أهل الكمال من كل فن، فعلماؤها إلى الآن أعظم علماء الإسلام وأهل حرفها أدق الفطناء في الأنام وأرباب دولتها هم أهل السعادة العظام فللمرحوم المقدس قلادة منن لاتحصى في أعناق المسلمين لاسيما العلماء الأكرمين([47]).
    فرحمة الله ومغفرته ورضوانه على السلطان محمد الفاتح وأعلى ذكره في المصلحين .

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 4:29 am