ما الذي يهمنا من توقيت نشر ويكيليكس؟

د. عماد الدين الجبوري

إن ما كشف عنه موقع ويكيليكس من نشر وثائق هي حقائق دامغة تدين المجرمين المحتلين من الأمريكان والصفويين والصهاينة من جهة، والقتل الطائفي لدى المالكي وغيره بحق أبناء الشعب العراقي من جهة أخرى. ورغم إن هذا الكشف ليس أكثر من أدلة إثبات ساطعة لِما كانت تنادي به الكثير من القوى والحركات الوطنية المساندة للمقاومة العراقية، ومنها هيئة علماء المسلمين ومجلس العشائر في الجنوب العراقي المقاوم وغيرها، فإن صداها ستتصاعد مع قدوم الأيام لأنها تعطي أرضية قانونية يحق للعراقين بالمطالبة في عقد محاكمة دولية لإدارة بوش ونظام الملالي الطائفي العنصري في إيران وعصابات الموساد الإسرائيلية، بأن تحاسبهم كمجرمي حرب.

وإذا كان هذا الأمر ليس بتلك السهولة، لاسيما مع أمريكا كونها مازالت القطب الأوحد عالمياً، لكن ردود الأفعال من قِبل منظمات وهيئات دولية حيال هذه الإثباتات بالإنتهاكات الوحشية اللإنسانية توجب على الوطنيين العراقيين المضيء قُدماً في المطالبة بمحاكمة دولية عادلة.

والسؤال الذي يشغل ذهننا هنا، إنه لا موقع ويكيليكس ولا غيره من المواقع أو الصحف والجرائد الأمريكية أو الغربية أن تتجرأ بنشر هكذا وثائق خطيرة للغاية قد تأجج الأوضاع وتشحن النفوس وتقلب الأفكار التي تريد تسويقها السياسية الخارجية الأمريكية أن تستمر وفق الزمن المنظور.

وعليه يمكننا أن نستنبط الأسباب التي دفعت بالدوائر المغلقة في صنع القرار الأمريكي بأن تسمح لهذا الموقع أن يمتلك 400 ألف وثيقة سرية تخص الحرب في العراق، وتجيز له أن ينشر مجموعة من تلكم الوثائق وفي هذا الوقت بالذات. وبذا نقول:

أولاً: إن إدارة أوباما وهي على أبواب الإنتخابات النصفية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم قد التمست بأنها لن تحقق ذلك الفوز المطلوب، حيث أن تبعات الحرب في أفغانستان والعراق قد أجبرت أوباما أن يتراجع عن بعض وعوده، ومنها وقف التحقيق تجاه جرائم الحرب التي أرتكبتها إدارة سلفه جورج بوش. وربما أرادت إدارة أوباما أن تزيح عن كاهلها شيئاً ثقيلاً هي ليست مسؤولة عنه لكي تتحمل ردة فعله داخلياً وخارجياً. ولهذا غضت الطرف عن تسريب ذلك الكم الهائل من الوثائق التي تدين بوش وعصابة المحافظين الجدد وكل من أشترك بهذه الحرب الباطلة والمفتعلة والجرائم التي أرتكبت وإنتهكت فيها جموع هائلة من المدنيين العراقيين.

ثانياً: من أجل ضرب عصفورين بحجر، ربما، سمحت إدارة أوباما بنشر وثائقاً تعري فيها تماماً دموية النظام الإيراني وحكومة المالكي بالقتل الطائفي داخل العراق. حيث أن هذين الحليفين قد تمادى في الحجم والوزن الذي بدأ يتعارض مع المشروع الأمريكية في العراق وفي المنطقة. فالنظام الصفوي الإيراني بالقدر الذي يطمح أن يصبح دولة نووية تهدد منطقة الشرق الأوسط بتوسعها العدواني، فإن خلاياها تعمل على قدم وساق بزرع البذرة الصفوية الطائفية التي إمتدت من العراق واليمن ولبنان لتصل إلى المغرب العربي. أما المالكي فقد ضرب بعرض الحائط ديموقراطية أمريكا بالتداول السلمي للسلطة، وتعمق في القتل والإغتيال الطائفي، وحصان إيران السريع في سيطرة الملالي على العراق.

ثالثاً: إن فجائية نشر هذه الوثائق في هذا الوقت تحديداً، قطعاً سيزيد أكثر في إرباك العملية السياسية التي تجاوزت أصلاً حدودها الدستورية الزمنية بفترة طويلة جعلت المواطن العراقي يعاف ويضجر من شخوص الإحتلال الذين لا يكترثون بالإلتزام الدستوري ولا لمآسي ومعانات الشعب ولا لمستقبل الوطن، بقدر ما يهمهم مصالحهم السلطوية والمناصبية. وبالتالي فإن عملية النشر الحالية تجعل الخيارات الأمريكية الأخرى مفتوحة، سواء بما يتعلق بالبند السابع من العقوبات الأممية المفروضة على العراق، وذلك بإصدار قرار إممي يلزم بتشكيل حكومة إنقاذ وطنية تمهد لقيام إنتخابات عامة؛ أو العمل على إنقلاب عسكري يكسح المتصارعين على السلطة، خصوصاً وأن الشارع العراقي أصبح مهيأً لمثل هذا الحل.

رابعاً: قد يجوز فيه خطة ما تهدف إلى تخفيف ردة الفعل المستقبلية على السياسة الخارجية الأمريكية كونها مجرمة حرب. حيث أن السيطرة الإعلامية مازالت تدور في فلك الإستراتيجية الأمريكية. بمعنى إن السماح بالكشف عن وثائق تدين الإجرام الحربي الذي أرتكبته قيادات عسكرية أو سياسية أمريكية في العراق، لكي تمتص فيها حالياً النقمة الجماهيرية وفق السطوة الإعلامية الموجودة، وإن تطلب الأمر تضحية بكبش فداء كبير، كما جرى مع إستقالة وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد بعد فضحية سجن أبو غريب.

خامساً: قد يكون هذا الكشف الخطير الآن عبارة عن كفارة يدفعها أوباما لصالح المقاومة العراقية وقواها المدنية المناهضة لحتلال. وبالتالي ليس من المستبعد في السنتيتن المتبقيتين للرئيس أوباما أن يحدث شيئاً من الصلة مع المقاومة العراقية، أو أن يمهد السبيل لمستقبل يحدث فيه مثل هذا الإلتقاء. إذ أن نشر هذه الوثائق لها منعطف يتجه إلى الضد من عملية الإحتلال العسكري الأمريكي للعراق، ويسارع أكثر بالقضاء على أذناب الإحتلال من الخونة العراقيين، ويزرع الهلع والقلق بين الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران. مما يعني إن العنصر الزمني يسير أكثر لصالح المقاومة العراقية. فالمستقبل إنما يكون للمقاومة، ولقد إتضح ذلك منذ السنة السابعة حيث بدأ الإحتلال بالتقهقر والمقاومة بالتقدم، وفي السنة الحالية، سنة الحسم الذي بدأ المحتل بالخروج العسكري ولو جزئياً، بيد أن السنة القادمة ستكون السنة الذهبية للمقاومة العراقية، حيث تفرض على المحتل شروطها أو مواجهة الهزيمة مهما طال الزمن. وربما تفادياً للهروب المستقبلي جاءت نشر هذه الوثائق لتجعل للقوات الأمريكية منفذاً تخرج منه بشكل ضروري لا إنهزامي.

هذا وإن قادم الأيام من نشر للوثائق السرية والخطيرة سوف لن تخرج عن أبعاد هذه الخطوط التي تريد فيها ومن خلالها السياسية الخارجية الأمريكية أن تبدأ بفصل جديد تحاول فيه أن تعيد بعض سمعتها أمام الشعوب والأمم والتاريخ. بيد أن قتل الأبرياء وسفك الدماء بأعداد مخيفة لا تعفي الذين تلطخت أياديهم بزهق الأرواح من المحاسبة ولو بعد حين.