البداية توجد في الشرق الأقصى؛ فدرس "كوريا الشمالية" لا يحتاج إلى إعادة قراءة، لكي يتم اكتشاف أن ما آل إليه الوضع في شبه الجزيرة الكورية في النهاية، قد ارتبط في الأساس بتوجهات وسياسات الولايات المتحدة؛ إذ كانت بيونغ يانغ تصر طوال الوقت -عبر عدة سنوات- على أن يتم التفاهم حول المشكلة من خلال المفاوضات المباشرة مع واشنطن، على الرغم من وجود فاعلين ذوي تأثير كالصين وروسيا، أو فاعلين ذوي مصالح كاليابان وكوريا الجنوبية، فقد كانت تدرك أن "الصفقة الكبرى" لن تتم إلا عبر المحيط الهادي.
ولقد أدت التقديرات التي استندت إليها واشنطن -والتي لم تكن تتفق مع تقديرات شركائها- في إدارة الأزمة إلى قيام كوريا الشمالية بإنتاج الأسلحة النووية، واختبارها مرتين، رغم أن الافتراض الذي ساد طوال الوقت، هو أنها لم تكن ترغب في تجاوز العتبة النووية، وأنها كانت راغبة فقط في استخدام قدراتها النووية كأداة مساومة للحصول على اعتراف سياسي وضمانات أمنية وعوائد اقتصادية، وينطبق هذا الوضع -مع تعديلات مختلفة- على موقع الولايات المتحدة في الحالة الإيرانية.
إن الولايات المتحدة هي "الفاعل الثاني" الرئيسي الذي تتحكم توجهاته وسلوكياته في المسار المحتمل لأزمة برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، إضافة إلى إيران بالطبع؛ فالصين وروسيا يحتلان نفس الموقع الذي يحتلانه في أزمة البرنامج النووي الكوري الشمالي، والأطراف الإقليمية العربية لديها مصالح أمنية وسياسية جوهرية، تتعلق بالمشكلة، مثل كوريا الجنوبية واليابان في الحالة السابقة، وسوف تكون مستعدة لتحمل جزء من ثمن الصفقة أو "الضربة"، إلا أن مسار الأزمة يتحدد بعيدًا عنها، كما أن الأطراف الأوروبية الرئيسية، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، غارقة تمامًا في عملية إدارة الأزمة، ولديها توجهات صقورية أو حمائمية بشأنها، إلا أن القرار النهائي لن يُتَّخذ في عواصمها، وتبقى إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يثور نقاش بشأن قدرتها على خلط الأوراق أو إرباك العملية أو "إطلاق الشرارة"، لكن الأساس هو أن واشنطن تظل الطرف الرئيسي الذي يتحكم في الخيارات الرئيسية الخاصة بالحل أو الحرب، أو الخيارات الانتقالية الضاغطة.
معادلات واشنطن
تقديرات واشنطن
خيارات واشنطن
معادلات واشنطن
المشكلة الأساسية هنا، هي أن واشنطن ليست كيانًا بسيطًا، فيما يتعلق بالتعامل مع أية حالة من الحالات التي تطرح مشكلة تتعلق باحتمالات ظهور سلاح نووي؛ فخلال إدارة الرئيس جورج بوش الأولى، كان ثمَّة قول شائع داخل أروقتها يشير إلى أن الحرب في العراق يمكن أن تُحسَم إذا توقفت الحرب بين وزارة الدفاع (دونالد رامسفيلد) ووزارة الخارجية (كولن باول).
اللاعبون المعنيون بالمسألة النووية
والواقع أن هناك أربعة لاعبين رئيسيين مشتبكين في التعامل مع مثل تلك المشكلات، هم:
الإدارة الأميركية، يتضمن ذلك، البيت الأبيض، بمجالسه المختلفة، وكبار المسؤولين والمتخصصين والخبراء في الوزارات (الإدارات) ذات العلاقة كالخارجية والدفاع والطاقة والأمن الداخلي.
ثم ما يُسمى "جماعة الاستخبارات" التي تضم وكالة الاستخبارات المركزية، وحوالي 14 جهاز استخبارات آخر يعمل في إطار هيئة التقديرات الاستخباراتية القومية.
يُضاف لذلك الكونغرس الأميركي بمجلسيه (الشيوخ والنواب)، ويشمل كذلك لجانه الداخلية المتعددة كالعلاقات الخارجية والاستخبارات.
ثم اللاعب الرابع وهو مراكز الدراسات (التفكير) المستقلة، وغير الحكومية التي تمتلك برامج قوية لمتابعة وتقييم حالة الانتشار النووى، وتُصدر توصيات بشأن التعامل معها.
وتتسم أدوار اللاعبين السابقين في عملية صنع القرار النووي بالوضوح النسبي؛ فأجهزة الاستخبارات هي المسؤولة عن تقييم النوايا والقدرات النووية بالنسبة لأية دولة من خلال رصد وجمع البيانات الفنية المتعلقة بالنشاطات النووية للدولة المعنية، مع تصنيفها وتحليلها، كما أوضح التقدير الشهير لحالة إيران النووية الذي صدر عنها في نهاية عام 2008، ويتم تقديم تلك "التقديرات الاستخباراتية" بعد ذلك للإدارة والكونغرس بعد مناقشتها في إطار "هيئة الاستخبارات القومية"، وتتولى الإدارة استنادًا على ذلك (أو يفترض ذلك) تشكيل السياسة الرسمية تجاه الدولة موضع الاهتمام، في إطار التوجهات العامة الحاكمة للسياسة الأميركية في مرحلة ما.
أما بالنسبة للاعبين الآخرين؛ فإن دورهم يرتبط بما يلي:
تقوم مراكز الأبحاث عادة بتحليل التقديرات السائدة، أو إعداد تقديرات مستقلة خاصة بها، مع مطابقة مدى تعبير السياسة الرسمية عنها، فهي في معظمها ليست مشاركة مباشرة في عملية صنع سياسة الإدارة، إلا أنها تقوم بالتأثير عليها بشدة عبر المؤتمرات وحلقات النقاش والنشر والتعليقات والتقديرات والاتصالات المستمرة مع الإدارة وجماعة الاستخبارات، وأحيانًا تشكيل مجموعات الـ "مسار الثاني"، في إطار إبداء الرأي وطرح الخيارات، وقد نشطت تلك المراكز بشدة في حالة إيران.
يمارس الكونغرس على هذا المستوى دورًا استشاريًا في المراحل الأولى لصنع القرارات، فلديه لجان الاستخبارات الداخلية فيه، وعادة ما تكون لديه تقديراته لما تقدمه الأجهزة استنادًا على "إفادات" وشهادات وجلسات استماع لمسؤولين في الحكومة أو خبراء في مراكز الدراسات، وأحيانًا شخصيات من المناطق أو الدول المعنية. لكن تظل لديه أدوات قوية للنظر في سياسة معينة بدعمها أو عرقلتها من خلال التمويل، وأحيانًا بخلقها باعتبار أن الكونغرس ساحة لجماعات المصالح (اللُّوبيهات)، وبالتالي يؤثر في المراحل التالية، خاصة عندما تتحول القضايا إلى مشكلات أو المشكلات إلى أزمات.
إن المسألة هنا لا تتوقف على أدوار اللاعبين، ولكن على نمط التفاعل بينهم استنادًا على الافتراضات المسيطرة داخل "جماعة منع الانتشار" العاملة داخل تلك المؤسسات، والتي تؤثر على مخرجات السياسة الأميركية بشأن التطورات القائمة أو المحتملة بالنسبة لكل دولة، فلا يوجد مبدأ عام يحدد اتجاه سياسة منع الانتشار النووي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فتلك السياسة تتحدد في إطار بيئة تشهد عملية تفاعل بين التصورات السائدة لدى صانعي السياسة في واشنطن والتقديرات الاستخباراتية ذات الطابع الفني والتوجهات التحليلية في مراكز الدراسات، بشأن النشاطات النووية المرتبطة بكل حالة على حدة، فبيئة صنع القرار في واشنطن تفرز في النهاية مداخل سياسية خاصة "مصمَّمة لكل دولة من دول المنطقة".
عملية صنع التوجهات داخل المؤسسات
في هذا الإطار؛ فإن عملية صنع التوجهات داخل تلك المؤسسات، وتأثيراتها بعد ذلك على القرارات والتحركات العملية، تستند عادة على ما يلي:
المدركات الإستراتيجية: فهي المعيار العام الذي يتم على أساسه قياس تأثير نشاطات معينة لفاعل خارجي على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة خارج أراضيها، استنادًا على شكل العلاقات السياسية القائمة؛ فواشنطن عمومًا تتخذ عادة موقفًا شديد التصلب تجاه الأطراف المناوئة لها، والتي توضع في خانة تتغير مسمياتها من مرحلة لأخرى؛ فأحيانًا تسمى "الدول المارقة" أو دول "محور الشر"، ، بينما تتخذ – وفقًا لذلك- موقفًا مختلفًا تعاونيًا تجاه من يُعتَبرون "الحلفاء" أو الدول الراغبة في التعاون معها، أو التي تُعتبر سياساتها داعمة للمصالح الأميركية.
مدركات التهديد: وتعتبر العامل الأكثر تأثيرًا في توجهات سياسة منع الانتشار الأميركية تجاه الدول الأخرى؛ فتقديرات الاستخبارات ورؤى الإدارة (والكونغرس) وتوصيات مراكز الدراسات تُبنى في جزء أساسي منها على ما إذا كانت نشاطات دولة ما يتم إدراكها على أنها تمثل تهديدًا محتملاً بشكل أو بآخر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة للمصالح أو الأراضي الأميركية أم لا. وتُبنى تلك المدركات كذلك على تقديرات خاصة بما إذا كانت النشاطات المعنية تمثل -إلى مدى معين- تهديدًا لمصالح إستراتيجية أميركية في إقليم ما، أو لأحد حلفاء الولايات المتحدة، ويتم تصنيف التهديدات إلى تهديدات تتسم بالإلحاح أو كامنة؛ فالمعيار هو تهديد المصلحة الإستراتيجية.
الدوافع السياسية: فالدوافع السياسية تمثل مجمل المواقف والتوجهات والأفعال الخاصة باللاعبين السياسيين، والتي تتم من خلالها محاولة التأثير على سياسة منع الانتشار، بتوجيهها نحو اتجاهات ترتبط "بهيكل القوة" داخل واشنطن؛ فالتوجهات السياسية للإدارات الأميركية المختلفة، أو التقديرات المحرفة لأجهزة الاستخبارات في وقت ما، وصراعات القوة بين الحزبين الرئيسيين من أجل إعادة الانتخاب، والرغبة في تحقيق مكاسب شخصية، أو نفوذ داخل الإدارة، أو تأثير "اللوبيهات" في اتجاهات معاكسة، إضافة إلى تحليلات مراكز الدراسات ذات النفوذ في العاصمة، كلها تُعد أمثلة شائعة للدوافع السياسية. ويمكن رصد وقائع لا نهاية لها كدوافع سياسية، لها تأثير على السياسة الأميركية المتعلقة بإيران.
وأخيرًا، فإنه تحيط بكل ذلك طرق تفكير يختلف تأثيرها من حالة لأخرى، ومن فترة لأخرى، تتعلق بتحليل النوايا مقابل تحليل القدرات، أو اتباع منطق "سيناريو أسوأ حالة"، الذي يستند أحيانًا على نوع من عدم التمييز بين جانبي القوة النووية المدني والعسكري، ويقود كل ذلك إلى تشكل توجه عام إزاء حالة معينة في العاصمة الأميركية.
تقديرات واشنطن
في هذا الإطار، فإن إيران قد اعتُبرت -بالنسبة للولايات المتحدة- واحدة من حالتين تمثلان مصدر التهديد الأكثر خطورة لأجندة منع الانتشار النووي الأميركية منذ منتصف عام 2003 على الأقل، بعد أن تم اكتشاف ما قامت به من نشاطات نووية سرية بشكل مؤكد، في ناتانز، والحالة الثانية هنا هي كوريا الشمالية.
ويتمثل العامل الرئيسي المؤثر على السياسة الأميركية تجاه إيران في "مدركات التهديد"؛ فالتيار الرئيسي في واشنطن لديه قناعة بأن هناك احتمالات قوية لامتلاك إيران أسلحة نووية، وأن تلك المسألة تمثل - في ظل وجود ما يُعتبر "نظام مارق" غير صديق- مصدر تهديد مباشر وملح للأمن القومي الأميركي.
إن التوجه السائد لدى المؤسسات الرئيسية في واشنطن هو أن امتلاك إيران للقنبلة سوف يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، وقد يطلق موجة من الانتشار النووي في الشرق الأوسط، فمثل هذا السلاح سوف يُمكِّن طهران من تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما في ظل استمرار تطور برنامجها الصاروخي، ويتضمن ذلك تهديد إسرائيل، كما يؤدي إلى توجيه ضربة جديدة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ويثير احتمالات قيام إيران –تبعًا لسيناريو أسوأ حالة– بإمداد عناصر إرهابية بأسلحة نووية، مع وجود احتمالات لردود أفعال نووية من جانب مصر والسعودية وربما تركيا (التي تبدو لا مبالية حاليًا)، وهو ما يجعل الصورة أكثر حدة مما هي عليه في الواقع.
إن القصة الداخلية في واشنطن تشير إلى أن "مدركات التهديد" الأميركية بشأن إيران، إضافة إلى شكل العلاقات الصراعية القائمة بين الطرفين، كانا دائمًا يتسمان بمستوى من الحدة لا يتيح اتجاهات أخرى للتفكير في العاصمة، لكن الأهم هو أنهما يفرزان توجهًا محددًا: هو أن إيران تتجه إلى امتلاك سلاح نووي، وأن الولايات المتحدة لا يجب بأي حال أن تسمح لإيران بتطوير تلك الأسلحة.
تياران فرعيان في واشنطن في مواجهة التيار الرئيسي
لكنْ هناك تياران فرعيان يمارسان تأثيرات مؤقتة تتصاعد كل فترة بناء على تقديرات واشنطن المتعلقة بالتهديد الإيراني، وقد بدا في بدايات إدارة باراك أوباما، أن مقولات التيارين قد أصبحت أكثر تحديًا لتوجهات التيار الرئيسي على نحوٍ أدَّى إلى إرباك التقديرات الأميركية، وهذان التياران هما:
تيار يطرح سؤالاً حول ما إذا كانت إيران تريد امتلاك قنبلة نووية بالفعل أم لا؟
فبعيدًا عن "تحليل النوايا" الذي يمثل الميكانيزم السياسي الأكثر أهمية والذي يسيطر على معظم المؤسسات، تتركز التقديرات المحافظة غير الرسمية وشبه الرسمية لهذا التيار في أن إيران كانت تهدف إلى امتلاك دورة وقود نووي متكاملة، قبل أن تتجه في تطوير قدراتها النووية إلى ما يتجاوز "دورة الوقود الذاتية"، نحو تطوير عملية تخصيب اليورانيوم على نطاق واسع، بما يتيح لها في النهاية امتلاك "خيار نووي" يقف بها على العتبة النووية العسكرية، مع عدم اتخاذ القرار الخاص بامتلاك أسلحة نووية بالضرورة.
إن جوهر ما يطرح هنا هو أن إيران -مثل كوريا الشمالية قبل أن تقرر صناعة الرؤوس النووية- تسعى لامتلاك خيار نووي وليس سلاحًا نوويًا، وأن قياداتها اتبعت دائمًا إستراتيجية الوقوف على مفترقات الطرق، ولن تقرر الاندفاع بصورة لا رجعة فيها باتجاه العودة إلى الطريق السلمي أو التقدم نحو الطريق العسكري، وأن هذا يتيح وقتًا للتعامل مع المشكلة، التي لا تبدو حادة طالما أن إيران لم تنسحب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، أو تتجاوز نسبة 20% في عملية تخصيب "اليورانيوم 235"(*)، وطالما لم توجد دلائل قاطعة على أنها تفكر في ذلك. كما أنه وفقًا لهذا التيار، فإن ذلك يتيح أيضًا خيارات ليست هي فقط "الحوار أو القتال" للتعامل معها؛ فالمساومة الإقليمية للوصول إلى "صفقة كبرى" أو العقوبات الاقتصادية يمكن أن تسوي الموقف.
تيار يطرح سؤالاً أكثر حدة، مضمونه: وماذا يمكن أن يحدث لو امتلكت إيران أسلحة نووية؟
وتتمثل الفكرة هنا في أن امتلاك إيران أسلحة نووية لن يكون نهاية العالم بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة؛ فالولايات المتحدة لديها أسلحة نووية يمكن أن "تدك" إيران في حالة ظهور بوادر عدم تعقل من جانب قياداتها، كما أن إسرائيل لديها ترسانة نووية سوف تحيِّد تأثيرات إيران النووية، وتقيم التفاعلات بينهما على أساس الردع المتبادل، يضاف إلى ذلك أنه يمكن تقديم مظلة نووية أميركية لحلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج، على نحو ما هو قائم بالنسبة لليابان حاليًا وألمانيا قديمًا، وفي نفس الوقت يمكن أن تقدم "سلة حوافز" أو تفاهمات، لكل من مصر والسعودية لمنعها من رد الفعل على إيران بمحاولة امتلاك أسلحة نووية مضادة، كما حدث في حالة كوريا الجنوبية، وبالتالي لاتوجد كارثة.
إن نفوذ هذا التيار تحديدًا قد وصل إلى كثير من مراكز الدراسات في الولايات المتحدة، ويبدو أن بعض أعضاء الكونغرس قد تبنَّوه، وقد بدا طوال الوقت قابلاً للنقاش، إضافة إلى أنه تم "بناء سيناريو" يستند عليه، عبر استشارة بعض حلفاء واشنطن أو اختبار ردود أفعالهم، ووفقًا له فإن على الولايات المتحدة أن تعمل على منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية بكل الوسائل، دون القوة المسلحة، لكن إذا خرجت الأزمة عن نطاق السيطرة بفعل ديناميكيات الإدارة الإيرانية الداخلية لها؛ فإن البديل الخاص بوجود إيران نووية في المنطقة لن يكون -بالحسابات الإستراتيجية- كارثة إقليمية، وسوف يظل من الممكن احتواء إيران لاسيما وأن ضربها قد يثير فوضى داخلها، أو يدفعها بشكل نهائي إلى أيدي "المتطرفين".
مرة أخرى، فإن هذين التيارين يعبران عن "أفكار قوية" وليس "جماعات قوية" في واشنطن، وقد تمثلت أهميتهما في إثارة النقاش طوال الوقت، وطرح تحديات إستراتيجية أمام التيار الرئيسي الذي توجد لديه قناعة بأن إيران دولة تمثل مصدر تهديد، وأنها تسعى لامتلاك سلاح نووي، وأن الولايات المتحدة لن تتركها تفعل ذلك.
وقد قدم التيار الرئيسي حُججًا قوية في مواجهة الأفكار الفرعية، فهناك من يرى أنه لا يمكن الثقة في نوايا إيران، وأن امتلاك "الخيارات" قد يكون أخطر من امتلاك الأسلحة؛ لأن طهران ستتبنى سياسات الابتزاز. كما أن وجود أسلحة نووية في "أيدي متطرفة دينيًا" لن يجعل الردع مستقرًا، وأن إسرائيل لن تحتمل مثل تلك الأوضاع من طرف ينكر وجودها، وما إلى ذلك من المقولات التي أدت في النهاية إلى ما اعتُبر من جانب تحليلات مختلفة "حالة عدم وضوح" في واشنطن بشأن تقديراتها الإيرانية، حتى داخل بعض المؤسسات الرسمية، وهو ما انسحب تحديدًا على التقديرات المتعلقة بمدى تطور القدرات النووية شبه العسكرية في إيران، والخيار الخاص بالتعامل معها إذا اتضح أنها تتجه بشكل نهائي لامتلاك أسلحة نووية.
خيارات واشنطن
إن الاتجاه الرئيسي في معظم التحليلات التي تحاول الإجابة عن سؤال: ماذا ستفعل واشنطن مع طهران؟ هو أن الإدارة الأميركية تحتفظ بكل الخيارات على الطاولة، وهو ما أكدته إدارة بوش وإدارة أوباما، لكن ذلك لا يقدم إجابة في واقع الأمر، فالقضية دائمًا هي أوزان تلك الخيارات، وما إذا كانت واشنطن على استعداد للُّجوء إلى القوة المسلحة في نهاية الأمر إذا فشلت كل الخيارات غير العسكرية الأخرى.
ولأنه لا توجد إجابة قاطعة بهذا الشأن، فإن كثيرًا من التقارير الواردة من واشنطن تشير إلى أن المؤسسات الأميركية ذاتها، غير واثقة مما قد يكون عليه رد فعل الإدارة الأميركية في نهاية الأمر، وإن كانت قد بدأت تستعد فعليًا منذ بداية عام 2010 لكل الخيارات، وهو تعبير يعني في الأساس أن استخدام القوة المسلحة قد يكون ممكنًا، وأنه إذا خُيِّرت الإدارة الأميركية بين أن تترك إيران لتمتلك الأسلحة النووية أو أن تشن حربًا ضدها، فإنها قد تُقدم على شن الحرب. لكن مرةً أخرى لا توجد ثقة نهائية في أن ذلك سيكون الخيار المعتَمَد بدون مزيد من النقاش التفصيلي، كما اعتاد أوباما أن يفعل مع الجنرالات.
إن المعيار الرئيسي الذي يبدو أنه سيحدد خيارات واشنطن هو "مستوى تطور القدرات النووية الإيرانية"، وتحديدًا فإنه في ظل التطورات المتتالية لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، والتي تتعلق بوجود منشأة رئيسية في ناتانز يوجد بها أكثر من 8000 جهاز طرد مركزي، وحجم يتجاوز 2500 كيلوجرام من اليورانيوم المخصَّب بدرجة منخفضة، ومنشأة أخرى في (قم) يتم تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تقدمًا (بي 2) بها، وتقدم يجري في اتجاه إقامة عدة منشآت جديدة علنًا هذه المرة، مع تطوير مستوى التخصيب إلى ما يقترب من 20%، وصناعة أجهزة طرد مركزي من جيل أكثر تقدمًا من الـ بي 2، في ظل ذلك تتم -بشكل متواصل- محاولات لتقدير المدى الزمني الذي يمكن أن تمكِّن تلك العملية إيران من الحصول على المواد اللازمة لصناعة الأسلحة النووية.
وتتمثل أهمية تقدير الموقف بهذا الشأن في أنه قد يُسهم في تحديد طبيعة الخيار الذي تتبعه واشنطن في التعامل مع الحالة الإيرانية، فإما أن تكرر الإدارة الأميركية لآخر مرة نموذج "الحوار النووي" الذي تم اعتماده مع كوريا الشمالية، أو قد تستمر في اتباع أساليب إكراهية تتعلق بالحصار الاقتصادي إلى حين تجد أنه ليس أمامها مفر من الإجابة عن السؤال الحرج، وهو ماذا ستفعل بعد ذلك؟
إن مشكلة هذا السؤال هي أن هناك قناعة في مراكز الدراسات الأميركية -تم التعبير عنها في أكثر من منتدى، وربما يدركها جيدًا صنَّاع القرار في المؤسسات الرسمية- وهي أن التاريخ الطويل لعملية الانتشار النووي يشير إلى أن العقوبات الاقتصادية لن تكون مجدية في منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، إلا إذا تم اتخاذ قرارات تتعلق بتشديدها نوعيًا لمستوى الحصار وتنفيذها بالقوة المسلحة لدرجة أنها لن تكون مختلفة عمليًا عن "شن الحرب"، وهو ما لن يحدث بتوافق دولي، بفعل مواقف الصين وروسيا، فوقف الانتشار النووي في تلك الحالة لن يَحِل عمليًا إلا بحوار مع طهران أو شن حرب ضد إيران.
لقد حاولت "جماعة عدم الانتشار" في العاصمة الأميركية، سواء في مراكز الدراسات أو لجان الكونغرس أن تفكر في أُطر غير تقليدية، ووصل الأمر أحيانًا إلى تحليلات معقدة تتبنَّى إستراتيجيات ثنائية مركبة توازن بين الردع من الناحية والدبلوماسية من ناحية أخرى مع استمرار الضغوط متعددة الأطراف. وأساس ذلك هو أن تحولاً كبيرًا قد جرى من إدارة جورج بوش، التي لم تكن تقبل وجود برنامج تخصيب اليورانيوم من الأصل لدى إيران، إلى إدارة أوباما، التي يبدو أنها اقتنعت بأنه ليس من المتصور أن تقوم إيران بالتخلي عن كل طموحاتها النووية، بعد أن استثمرت فيها حجمًا أكبر مما هو معتاد -قياسًا على البرامج النووية المعروفة- من الأموال، وأصبحت المسألة تمثل بالنسبة لها قضية كبرياء قومي.
ويتمثل الحل الوسط الذي يجري النقاش حوله "كملاذ أخير" في أن يتم السماح لإيران بالاحتفاظ بقدرات تخصيب محددة ومواد نووية بحجم معين (يمكن حسابه رقميًا) تحت ضمانات قوية، مع استخدام العقوبات (بدلاً من الحوار) لإقناعها بذلك، وإذا لم يتم التوصل إلى نتيجة، يتم التفكير جديًا في الملاذ الأخير، عندما يتضح أن إيران تجاوزت خط اللاعودة، وأصبحت هي ذاتها غير قادرة على النكوص.
واشنطن وبناء خيار عسكري للتعامل مع إيران
إن كل المؤشرات التي شهدها عام 2010، بشأن الخيار الأخير تدل على أن الإدارة الأميركية تتعامل مع مسألة الخيار العسكري في التعامل مع إيران بجدية، وعادة ما توجد دلائل محددة لا تتعلق بالتصريحات السياسية، وإنما بالتحركات العسكرية الفعلية التي تشير إلى أن ذلك يحدث، سواء كان الأمر يتعلق بتحريك مجموعات بحرية عسكرية إلى منطقة الخليج، أو البدء في توفير نظم دفاع صاروخية لدول الخليج، أو التفاهم مع تلك الدول حول ما سيتم القيام به في حالة اتخاذ القرار بذلك، فهناك مجموعة مؤشرات تقود إلى نتيجة محددة وهي أنه يتم بناء خيار عسكري للتعامل مع إيران. لقد كانت المشكلة المزمنة التي تعرقل التفكير العملي في شن حرب من نوعٍ ما ضد إيران، تتعلق بما يلي:
إمكانية القيام بقصف منشآت نووية إيرانية " قيد العمل"، فمنشأة ناتانز تحديدًا تحتوي على أجهزة تعمل وقد تم تزويدها بمواد نووية، ولم يكن من المتصور أن يتم قصف منشأة نشطة؛ نظرًا لما قد يتسبب فيه ذلك من تلوث نووي واسع النطاق لن يتيح التعامل مع إيران ما بعد الحرب بأية صورة، وهنا كان أخطر ما تم التصريح به من جانب ديفيد بتريوس قائد القيادة المركزية الأميركية، ولا يتعلق بما أشار إليه من أن هناك خيارًا عسكريا، بقوله: "إنه سيكون من غير المسؤول تمامًا ألا تفكر القيادة الأميركية الوسطى المسؤولة عن المنطقة في سيناريوهات محتملة، وأن تضع خططًا للرد على مجموعة متنوعة من الأوضاع الطارئة في إيران"، وإنما يتعلق بقوله: "إن ضرب المنشآت النووية ممكن بالتأكيد".
ولقد كان مفهومًا طوال الوقت، أن المعامل الأميركية قد عملت على تطوير أساليب وأسلحة تتيح حدوث ذلك نظريًا، بطريقة الضربات المتتالية عبر ذخائر مطوَّرة لتلك الحالة، والمعنى أن هناك قناعة معلنة حاليًا بأن الضربة العسكرية ستكون فعالة، وستكون تداعياتها ضمن التوقعات المقبولة.
احتمالات رد الفعل الإيراني تجاه الحرب، ويدرك كل من تابع ما جرى في العاصمة الأميركية قبل شن الهجوم على العراق عام 2003 أن هناك تيارين يظهران في تلك الظروف، أحدهما يبالغ في تقدير رد فعل الدولة الهدف التي ستقلب العالم رأسًا على عقب بالنسبة للولايات المتحدة، وآخر يهوِّن تمامًا من احتمالات رد فعلها استنادًا على تقدير عناصر قوتها وعناصر ضعفها، وفي الوقت الحالي يسيطر في العاصمة الأميركية تيار التهوين من احتمالات رد فعل إيران، فسوف يتم ضرب قواعد الصواريخ أرض أرض، وما سيفلت منها -وفق ذلك التصور- لن تتجاوز تأثيراته ما جرى عندما أطلق العراق 39 صاروخًا متوسط المدى ضد إسرائيل، أو ما أُطلق ضد السعودية عام 1991.
إضافة لذلك، يتم التفكير طويلاً في إستراتيجيات لكيفية التعامل مع حالات زعزعة الاستقرار التي قد تقوم بها إيران ضد العراق وأفغانستان، كما توجد تهديدات مباشرة موجهة لحزب الله وحركة حماس، إذا فكَّرتا في العمل ضمن إستراتيجية الرد الإيرانية، ما يبقى بعد ذلك هو زوارق الصواريخ البحرية السريعة التابعة للحرس الثوري في مياه الخليج، وقد تم تسريب تقارير من داخل البنتاجون تشير إلى أن عملية تحديث للخطط العسكرية تجري حاليًا، وهو مؤشر ما!.
إن واحدًا من دروس العلاقات الدولية يقرر أنه لا يهم ما قد يجري في مكان ما من العالم، لكن ما يهم هو ما نعرفه عما يجري هناك، فإذا وقع تطور مؤثر ولم نعرف به فإنه في الحقيقة لم يقع بالنسبة لنا، أي أن المسألة في النهاية تتعلق بالمدركات. وهنا فإنه بصرف النظر عما إذا كان ما تفكر فيه الإدارة الأميركية بشأن الخيار العسكري وتداعيات ضرب إيران يمكن أن يكون دقيقًا أم لا -ولم يكن مثل ذلك دقيقًا على الإطلاق عام 2003 عندما اتُّخذ قرار غزو العراق- فإن الواقع الآن هو أن التوجه السائد في واشنطن حاليًا هو أن الخيار العسكري ممكن، وأنه يمكن احتمال تداعياته أو على الأقل "يجب توفير خيار حقيقي للرئيس" إذا قرر أن يفعل ذلك، وبالتالي لدينا مباراة قد تتحول إلى حرب في وقت ما، وهذا الخيار يرتبط بدوره بتقدير المدى الزمني الحرج لتقدم قدرات إيران النووية.
في النهاية، فإن هناك تصورات شائعة بأن عام 2010 سيكون عام الحسم بالنسبة لمشكلة برنامج تخصيب اليورانيوم في إيران، فإيران تبدو مندفعة في الحديث عن برامجها وإنجازاتها النووية، وهناك ضغط على الرئيس الأميركي الذي فشلت سياسة الحوار مع إيران التي لوَّح بها مع تولِّيه الإدارة، ولن تصل العقوبات إلى مستوى يمكِّنه من تحويل توجهات إيران على الأرجح، مع وجود ضغوط إسرائيلية في واشنطن تدفع في اتجاه اتخاذ موقف حاد، وإلا "ستفعلها بنفسها" رغم عدم مصداقية ذلك، وبالتالي سيجد الرئيس الأميركي نفسه في وقت ما من العام مطالبًا باتخاذ موقف، سيبدأ بتهديدات عسكرية تستند على قدرة على التنفيذ ضد إيران، وما سيبقى بعد ذلك سيتحدد في طهران، فإما أن تتكرر سيناريوهات حرب تحرير الكويت ضد العراق عام 1991، أو يتراجع أوباما ليتكرر سيناريو كوريا الشمالية في الشرق الأوسط، أو يتم التوصل إلى حل وسط يرحِّل المشكلة زمنيًا على غرار "نقل المواد النووية إلى الخارج"، ولا توجد توقعات محددة لما قد ينتهي إليه الأمر، إذ إن كل الاحتمالات واردة، فالمباراة قد تستمر كمباراة، لكنها أيضًا قد تنقلب إلى حرب.
المصدر: مركز الجزيرة لدرسات
ولقد أدت التقديرات التي استندت إليها واشنطن -والتي لم تكن تتفق مع تقديرات شركائها- في إدارة الأزمة إلى قيام كوريا الشمالية بإنتاج الأسلحة النووية، واختبارها مرتين، رغم أن الافتراض الذي ساد طوال الوقت، هو أنها لم تكن ترغب في تجاوز العتبة النووية، وأنها كانت راغبة فقط في استخدام قدراتها النووية كأداة مساومة للحصول على اعتراف سياسي وضمانات أمنية وعوائد اقتصادية، وينطبق هذا الوضع -مع تعديلات مختلفة- على موقع الولايات المتحدة في الحالة الإيرانية.
إن الولايات المتحدة هي "الفاعل الثاني" الرئيسي الذي تتحكم توجهاته وسلوكياته في المسار المحتمل لأزمة برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، إضافة إلى إيران بالطبع؛ فالصين وروسيا يحتلان نفس الموقع الذي يحتلانه في أزمة البرنامج النووي الكوري الشمالي، والأطراف الإقليمية العربية لديها مصالح أمنية وسياسية جوهرية، تتعلق بالمشكلة، مثل كوريا الجنوبية واليابان في الحالة السابقة، وسوف تكون مستعدة لتحمل جزء من ثمن الصفقة أو "الضربة"، إلا أن مسار الأزمة يتحدد بعيدًا عنها، كما أن الأطراف الأوروبية الرئيسية، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، غارقة تمامًا في عملية إدارة الأزمة، ولديها توجهات صقورية أو حمائمية بشأنها، إلا أن القرار النهائي لن يُتَّخذ في عواصمها، وتبقى إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يثور نقاش بشأن قدرتها على خلط الأوراق أو إرباك العملية أو "إطلاق الشرارة"، لكن الأساس هو أن واشنطن تظل الطرف الرئيسي الذي يتحكم في الخيارات الرئيسية الخاصة بالحل أو الحرب، أو الخيارات الانتقالية الضاغطة.
معادلات واشنطن
تقديرات واشنطن
خيارات واشنطن
معادلات واشنطن
المشكلة الأساسية هنا، هي أن واشنطن ليست كيانًا بسيطًا، فيما يتعلق بالتعامل مع أية حالة من الحالات التي تطرح مشكلة تتعلق باحتمالات ظهور سلاح نووي؛ فخلال إدارة الرئيس جورج بوش الأولى، كان ثمَّة قول شائع داخل أروقتها يشير إلى أن الحرب في العراق يمكن أن تُحسَم إذا توقفت الحرب بين وزارة الدفاع (دونالد رامسفيلد) ووزارة الخارجية (كولن باول).
اللاعبون المعنيون بالمسألة النووية
والواقع أن هناك أربعة لاعبين رئيسيين مشتبكين في التعامل مع مثل تلك المشكلات، هم:
الإدارة الأميركية، يتضمن ذلك، البيت الأبيض، بمجالسه المختلفة، وكبار المسؤولين والمتخصصين والخبراء في الوزارات (الإدارات) ذات العلاقة كالخارجية والدفاع والطاقة والأمن الداخلي.
ثم ما يُسمى "جماعة الاستخبارات" التي تضم وكالة الاستخبارات المركزية، وحوالي 14 جهاز استخبارات آخر يعمل في إطار هيئة التقديرات الاستخباراتية القومية.
يُضاف لذلك الكونغرس الأميركي بمجلسيه (الشيوخ والنواب)، ويشمل كذلك لجانه الداخلية المتعددة كالعلاقات الخارجية والاستخبارات.
ثم اللاعب الرابع وهو مراكز الدراسات (التفكير) المستقلة، وغير الحكومية التي تمتلك برامج قوية لمتابعة وتقييم حالة الانتشار النووى، وتُصدر توصيات بشأن التعامل معها.
وتتسم أدوار اللاعبين السابقين في عملية صنع القرار النووي بالوضوح النسبي؛ فأجهزة الاستخبارات هي المسؤولة عن تقييم النوايا والقدرات النووية بالنسبة لأية دولة من خلال رصد وجمع البيانات الفنية المتعلقة بالنشاطات النووية للدولة المعنية، مع تصنيفها وتحليلها، كما أوضح التقدير الشهير لحالة إيران النووية الذي صدر عنها في نهاية عام 2008، ويتم تقديم تلك "التقديرات الاستخباراتية" بعد ذلك للإدارة والكونغرس بعد مناقشتها في إطار "هيئة الاستخبارات القومية"، وتتولى الإدارة استنادًا على ذلك (أو يفترض ذلك) تشكيل السياسة الرسمية تجاه الدولة موضع الاهتمام، في إطار التوجهات العامة الحاكمة للسياسة الأميركية في مرحلة ما.
أما بالنسبة للاعبين الآخرين؛ فإن دورهم يرتبط بما يلي:
تقوم مراكز الأبحاث عادة بتحليل التقديرات السائدة، أو إعداد تقديرات مستقلة خاصة بها، مع مطابقة مدى تعبير السياسة الرسمية عنها، فهي في معظمها ليست مشاركة مباشرة في عملية صنع سياسة الإدارة، إلا أنها تقوم بالتأثير عليها بشدة عبر المؤتمرات وحلقات النقاش والنشر والتعليقات والتقديرات والاتصالات المستمرة مع الإدارة وجماعة الاستخبارات، وأحيانًا تشكيل مجموعات الـ "مسار الثاني"، في إطار إبداء الرأي وطرح الخيارات، وقد نشطت تلك المراكز بشدة في حالة إيران.
يمارس الكونغرس على هذا المستوى دورًا استشاريًا في المراحل الأولى لصنع القرارات، فلديه لجان الاستخبارات الداخلية فيه، وعادة ما تكون لديه تقديراته لما تقدمه الأجهزة استنادًا على "إفادات" وشهادات وجلسات استماع لمسؤولين في الحكومة أو خبراء في مراكز الدراسات، وأحيانًا شخصيات من المناطق أو الدول المعنية. لكن تظل لديه أدوات قوية للنظر في سياسة معينة بدعمها أو عرقلتها من خلال التمويل، وأحيانًا بخلقها باعتبار أن الكونغرس ساحة لجماعات المصالح (اللُّوبيهات)، وبالتالي يؤثر في المراحل التالية، خاصة عندما تتحول القضايا إلى مشكلات أو المشكلات إلى أزمات.
إن المسألة هنا لا تتوقف على أدوار اللاعبين، ولكن على نمط التفاعل بينهم استنادًا على الافتراضات المسيطرة داخل "جماعة منع الانتشار" العاملة داخل تلك المؤسسات، والتي تؤثر على مخرجات السياسة الأميركية بشأن التطورات القائمة أو المحتملة بالنسبة لكل دولة، فلا يوجد مبدأ عام يحدد اتجاه سياسة منع الانتشار النووي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فتلك السياسة تتحدد في إطار بيئة تشهد عملية تفاعل بين التصورات السائدة لدى صانعي السياسة في واشنطن والتقديرات الاستخباراتية ذات الطابع الفني والتوجهات التحليلية في مراكز الدراسات، بشأن النشاطات النووية المرتبطة بكل حالة على حدة، فبيئة صنع القرار في واشنطن تفرز في النهاية مداخل سياسية خاصة "مصمَّمة لكل دولة من دول المنطقة".
عملية صنع التوجهات داخل المؤسسات
في هذا الإطار؛ فإن عملية صنع التوجهات داخل تلك المؤسسات، وتأثيراتها بعد ذلك على القرارات والتحركات العملية، تستند عادة على ما يلي:
المدركات الإستراتيجية: فهي المعيار العام الذي يتم على أساسه قياس تأثير نشاطات معينة لفاعل خارجي على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة خارج أراضيها، استنادًا على شكل العلاقات السياسية القائمة؛ فواشنطن عمومًا تتخذ عادة موقفًا شديد التصلب تجاه الأطراف المناوئة لها، والتي توضع في خانة تتغير مسمياتها من مرحلة لأخرى؛ فأحيانًا تسمى "الدول المارقة" أو دول "محور الشر"، ، بينما تتخذ – وفقًا لذلك- موقفًا مختلفًا تعاونيًا تجاه من يُعتَبرون "الحلفاء" أو الدول الراغبة في التعاون معها، أو التي تُعتبر سياساتها داعمة للمصالح الأميركية.
مدركات التهديد: وتعتبر العامل الأكثر تأثيرًا في توجهات سياسة منع الانتشار الأميركية تجاه الدول الأخرى؛ فتقديرات الاستخبارات ورؤى الإدارة (والكونغرس) وتوصيات مراكز الدراسات تُبنى في جزء أساسي منها على ما إذا كانت نشاطات دولة ما يتم إدراكها على أنها تمثل تهديدًا محتملاً بشكل أو بآخر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة للمصالح أو الأراضي الأميركية أم لا. وتُبنى تلك المدركات كذلك على تقديرات خاصة بما إذا كانت النشاطات المعنية تمثل -إلى مدى معين- تهديدًا لمصالح إستراتيجية أميركية في إقليم ما، أو لأحد حلفاء الولايات المتحدة، ويتم تصنيف التهديدات إلى تهديدات تتسم بالإلحاح أو كامنة؛ فالمعيار هو تهديد المصلحة الإستراتيجية.
الدوافع السياسية: فالدوافع السياسية تمثل مجمل المواقف والتوجهات والأفعال الخاصة باللاعبين السياسيين، والتي تتم من خلالها محاولة التأثير على سياسة منع الانتشار، بتوجيهها نحو اتجاهات ترتبط "بهيكل القوة" داخل واشنطن؛ فالتوجهات السياسية للإدارات الأميركية المختلفة، أو التقديرات المحرفة لأجهزة الاستخبارات في وقت ما، وصراعات القوة بين الحزبين الرئيسيين من أجل إعادة الانتخاب، والرغبة في تحقيق مكاسب شخصية، أو نفوذ داخل الإدارة، أو تأثير "اللوبيهات" في اتجاهات معاكسة، إضافة إلى تحليلات مراكز الدراسات ذات النفوذ في العاصمة، كلها تُعد أمثلة شائعة للدوافع السياسية. ويمكن رصد وقائع لا نهاية لها كدوافع سياسية، لها تأثير على السياسة الأميركية المتعلقة بإيران.
وأخيرًا، فإنه تحيط بكل ذلك طرق تفكير يختلف تأثيرها من حالة لأخرى، ومن فترة لأخرى، تتعلق بتحليل النوايا مقابل تحليل القدرات، أو اتباع منطق "سيناريو أسوأ حالة"، الذي يستند أحيانًا على نوع من عدم التمييز بين جانبي القوة النووية المدني والعسكري، ويقود كل ذلك إلى تشكل توجه عام إزاء حالة معينة في العاصمة الأميركية.
تقديرات واشنطن
في هذا الإطار، فإن إيران قد اعتُبرت -بالنسبة للولايات المتحدة- واحدة من حالتين تمثلان مصدر التهديد الأكثر خطورة لأجندة منع الانتشار النووي الأميركية منذ منتصف عام 2003 على الأقل، بعد أن تم اكتشاف ما قامت به من نشاطات نووية سرية بشكل مؤكد، في ناتانز، والحالة الثانية هنا هي كوريا الشمالية.
ويتمثل العامل الرئيسي المؤثر على السياسة الأميركية تجاه إيران في "مدركات التهديد"؛ فالتيار الرئيسي في واشنطن لديه قناعة بأن هناك احتمالات قوية لامتلاك إيران أسلحة نووية، وأن تلك المسألة تمثل - في ظل وجود ما يُعتبر "نظام مارق" غير صديق- مصدر تهديد مباشر وملح للأمن القومي الأميركي.
إن التوجه السائد لدى المؤسسات الرئيسية في واشنطن هو أن امتلاك إيران للقنبلة سوف يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، وقد يطلق موجة من الانتشار النووي في الشرق الأوسط، فمثل هذا السلاح سوف يُمكِّن طهران من تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما في ظل استمرار تطور برنامجها الصاروخي، ويتضمن ذلك تهديد إسرائيل، كما يؤدي إلى توجيه ضربة جديدة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ويثير احتمالات قيام إيران –تبعًا لسيناريو أسوأ حالة– بإمداد عناصر إرهابية بأسلحة نووية، مع وجود احتمالات لردود أفعال نووية من جانب مصر والسعودية وربما تركيا (التي تبدو لا مبالية حاليًا)، وهو ما يجعل الصورة أكثر حدة مما هي عليه في الواقع.
إن القصة الداخلية في واشنطن تشير إلى أن "مدركات التهديد" الأميركية بشأن إيران، إضافة إلى شكل العلاقات الصراعية القائمة بين الطرفين، كانا دائمًا يتسمان بمستوى من الحدة لا يتيح اتجاهات أخرى للتفكير في العاصمة، لكن الأهم هو أنهما يفرزان توجهًا محددًا: هو أن إيران تتجه إلى امتلاك سلاح نووي، وأن الولايات المتحدة لا يجب بأي حال أن تسمح لإيران بتطوير تلك الأسلحة.
تياران فرعيان في واشنطن في مواجهة التيار الرئيسي
لكنْ هناك تياران فرعيان يمارسان تأثيرات مؤقتة تتصاعد كل فترة بناء على تقديرات واشنطن المتعلقة بالتهديد الإيراني، وقد بدا في بدايات إدارة باراك أوباما، أن مقولات التيارين قد أصبحت أكثر تحديًا لتوجهات التيار الرئيسي على نحوٍ أدَّى إلى إرباك التقديرات الأميركية، وهذان التياران هما:
تيار يطرح سؤالاً حول ما إذا كانت إيران تريد امتلاك قنبلة نووية بالفعل أم لا؟
فبعيدًا عن "تحليل النوايا" الذي يمثل الميكانيزم السياسي الأكثر أهمية والذي يسيطر على معظم المؤسسات، تتركز التقديرات المحافظة غير الرسمية وشبه الرسمية لهذا التيار في أن إيران كانت تهدف إلى امتلاك دورة وقود نووي متكاملة، قبل أن تتجه في تطوير قدراتها النووية إلى ما يتجاوز "دورة الوقود الذاتية"، نحو تطوير عملية تخصيب اليورانيوم على نطاق واسع، بما يتيح لها في النهاية امتلاك "خيار نووي" يقف بها على العتبة النووية العسكرية، مع عدم اتخاذ القرار الخاص بامتلاك أسلحة نووية بالضرورة.
إن جوهر ما يطرح هنا هو أن إيران -مثل كوريا الشمالية قبل أن تقرر صناعة الرؤوس النووية- تسعى لامتلاك خيار نووي وليس سلاحًا نوويًا، وأن قياداتها اتبعت دائمًا إستراتيجية الوقوف على مفترقات الطرق، ولن تقرر الاندفاع بصورة لا رجعة فيها باتجاه العودة إلى الطريق السلمي أو التقدم نحو الطريق العسكري، وأن هذا يتيح وقتًا للتعامل مع المشكلة، التي لا تبدو حادة طالما أن إيران لم تنسحب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، أو تتجاوز نسبة 20% في عملية تخصيب "اليورانيوم 235"(*)، وطالما لم توجد دلائل قاطعة على أنها تفكر في ذلك. كما أنه وفقًا لهذا التيار، فإن ذلك يتيح أيضًا خيارات ليست هي فقط "الحوار أو القتال" للتعامل معها؛ فالمساومة الإقليمية للوصول إلى "صفقة كبرى" أو العقوبات الاقتصادية يمكن أن تسوي الموقف.
تيار يطرح سؤالاً أكثر حدة، مضمونه: وماذا يمكن أن يحدث لو امتلكت إيران أسلحة نووية؟
وتتمثل الفكرة هنا في أن امتلاك إيران أسلحة نووية لن يكون نهاية العالم بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة؛ فالولايات المتحدة لديها أسلحة نووية يمكن أن "تدك" إيران في حالة ظهور بوادر عدم تعقل من جانب قياداتها، كما أن إسرائيل لديها ترسانة نووية سوف تحيِّد تأثيرات إيران النووية، وتقيم التفاعلات بينهما على أساس الردع المتبادل، يضاف إلى ذلك أنه يمكن تقديم مظلة نووية أميركية لحلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج، على نحو ما هو قائم بالنسبة لليابان حاليًا وألمانيا قديمًا، وفي نفس الوقت يمكن أن تقدم "سلة حوافز" أو تفاهمات، لكل من مصر والسعودية لمنعها من رد الفعل على إيران بمحاولة امتلاك أسلحة نووية مضادة، كما حدث في حالة كوريا الجنوبية، وبالتالي لاتوجد كارثة.
إن نفوذ هذا التيار تحديدًا قد وصل إلى كثير من مراكز الدراسات في الولايات المتحدة، ويبدو أن بعض أعضاء الكونغرس قد تبنَّوه، وقد بدا طوال الوقت قابلاً للنقاش، إضافة إلى أنه تم "بناء سيناريو" يستند عليه، عبر استشارة بعض حلفاء واشنطن أو اختبار ردود أفعالهم، ووفقًا له فإن على الولايات المتحدة أن تعمل على منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية بكل الوسائل، دون القوة المسلحة، لكن إذا خرجت الأزمة عن نطاق السيطرة بفعل ديناميكيات الإدارة الإيرانية الداخلية لها؛ فإن البديل الخاص بوجود إيران نووية في المنطقة لن يكون -بالحسابات الإستراتيجية- كارثة إقليمية، وسوف يظل من الممكن احتواء إيران لاسيما وأن ضربها قد يثير فوضى داخلها، أو يدفعها بشكل نهائي إلى أيدي "المتطرفين".
مرة أخرى، فإن هذين التيارين يعبران عن "أفكار قوية" وليس "جماعات قوية" في واشنطن، وقد تمثلت أهميتهما في إثارة النقاش طوال الوقت، وطرح تحديات إستراتيجية أمام التيار الرئيسي الذي توجد لديه قناعة بأن إيران دولة تمثل مصدر تهديد، وأنها تسعى لامتلاك سلاح نووي، وأن الولايات المتحدة لن تتركها تفعل ذلك.
وقد قدم التيار الرئيسي حُججًا قوية في مواجهة الأفكار الفرعية، فهناك من يرى أنه لا يمكن الثقة في نوايا إيران، وأن امتلاك "الخيارات" قد يكون أخطر من امتلاك الأسلحة؛ لأن طهران ستتبنى سياسات الابتزاز. كما أن وجود أسلحة نووية في "أيدي متطرفة دينيًا" لن يجعل الردع مستقرًا، وأن إسرائيل لن تحتمل مثل تلك الأوضاع من طرف ينكر وجودها، وما إلى ذلك من المقولات التي أدت في النهاية إلى ما اعتُبر من جانب تحليلات مختلفة "حالة عدم وضوح" في واشنطن بشأن تقديراتها الإيرانية، حتى داخل بعض المؤسسات الرسمية، وهو ما انسحب تحديدًا على التقديرات المتعلقة بمدى تطور القدرات النووية شبه العسكرية في إيران، والخيار الخاص بالتعامل معها إذا اتضح أنها تتجه بشكل نهائي لامتلاك أسلحة نووية.
خيارات واشنطن
إن الاتجاه الرئيسي في معظم التحليلات التي تحاول الإجابة عن سؤال: ماذا ستفعل واشنطن مع طهران؟ هو أن الإدارة الأميركية تحتفظ بكل الخيارات على الطاولة، وهو ما أكدته إدارة بوش وإدارة أوباما، لكن ذلك لا يقدم إجابة في واقع الأمر، فالقضية دائمًا هي أوزان تلك الخيارات، وما إذا كانت واشنطن على استعداد للُّجوء إلى القوة المسلحة في نهاية الأمر إذا فشلت كل الخيارات غير العسكرية الأخرى.
ولأنه لا توجد إجابة قاطعة بهذا الشأن، فإن كثيرًا من التقارير الواردة من واشنطن تشير إلى أن المؤسسات الأميركية ذاتها، غير واثقة مما قد يكون عليه رد فعل الإدارة الأميركية في نهاية الأمر، وإن كانت قد بدأت تستعد فعليًا منذ بداية عام 2010 لكل الخيارات، وهو تعبير يعني في الأساس أن استخدام القوة المسلحة قد يكون ممكنًا، وأنه إذا خُيِّرت الإدارة الأميركية بين أن تترك إيران لتمتلك الأسلحة النووية أو أن تشن حربًا ضدها، فإنها قد تُقدم على شن الحرب. لكن مرةً أخرى لا توجد ثقة نهائية في أن ذلك سيكون الخيار المعتَمَد بدون مزيد من النقاش التفصيلي، كما اعتاد أوباما أن يفعل مع الجنرالات.
إن المعيار الرئيسي الذي يبدو أنه سيحدد خيارات واشنطن هو "مستوى تطور القدرات النووية الإيرانية"، وتحديدًا فإنه في ظل التطورات المتتالية لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، والتي تتعلق بوجود منشأة رئيسية في ناتانز يوجد بها أكثر من 8000 جهاز طرد مركزي، وحجم يتجاوز 2500 كيلوجرام من اليورانيوم المخصَّب بدرجة منخفضة، ومنشأة أخرى في (قم) يتم تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تقدمًا (بي 2) بها، وتقدم يجري في اتجاه إقامة عدة منشآت جديدة علنًا هذه المرة، مع تطوير مستوى التخصيب إلى ما يقترب من 20%، وصناعة أجهزة طرد مركزي من جيل أكثر تقدمًا من الـ بي 2، في ظل ذلك تتم -بشكل متواصل- محاولات لتقدير المدى الزمني الذي يمكن أن تمكِّن تلك العملية إيران من الحصول على المواد اللازمة لصناعة الأسلحة النووية.
وتتمثل أهمية تقدير الموقف بهذا الشأن في أنه قد يُسهم في تحديد طبيعة الخيار الذي تتبعه واشنطن في التعامل مع الحالة الإيرانية، فإما أن تكرر الإدارة الأميركية لآخر مرة نموذج "الحوار النووي" الذي تم اعتماده مع كوريا الشمالية، أو قد تستمر في اتباع أساليب إكراهية تتعلق بالحصار الاقتصادي إلى حين تجد أنه ليس أمامها مفر من الإجابة عن السؤال الحرج، وهو ماذا ستفعل بعد ذلك؟
إن مشكلة هذا السؤال هي أن هناك قناعة في مراكز الدراسات الأميركية -تم التعبير عنها في أكثر من منتدى، وربما يدركها جيدًا صنَّاع القرار في المؤسسات الرسمية- وهي أن التاريخ الطويل لعملية الانتشار النووي يشير إلى أن العقوبات الاقتصادية لن تكون مجدية في منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، إلا إذا تم اتخاذ قرارات تتعلق بتشديدها نوعيًا لمستوى الحصار وتنفيذها بالقوة المسلحة لدرجة أنها لن تكون مختلفة عمليًا عن "شن الحرب"، وهو ما لن يحدث بتوافق دولي، بفعل مواقف الصين وروسيا، فوقف الانتشار النووي في تلك الحالة لن يَحِل عمليًا إلا بحوار مع طهران أو شن حرب ضد إيران.
لقد حاولت "جماعة عدم الانتشار" في العاصمة الأميركية، سواء في مراكز الدراسات أو لجان الكونغرس أن تفكر في أُطر غير تقليدية، ووصل الأمر أحيانًا إلى تحليلات معقدة تتبنَّى إستراتيجيات ثنائية مركبة توازن بين الردع من الناحية والدبلوماسية من ناحية أخرى مع استمرار الضغوط متعددة الأطراف. وأساس ذلك هو أن تحولاً كبيرًا قد جرى من إدارة جورج بوش، التي لم تكن تقبل وجود برنامج تخصيب اليورانيوم من الأصل لدى إيران، إلى إدارة أوباما، التي يبدو أنها اقتنعت بأنه ليس من المتصور أن تقوم إيران بالتخلي عن كل طموحاتها النووية، بعد أن استثمرت فيها حجمًا أكبر مما هو معتاد -قياسًا على البرامج النووية المعروفة- من الأموال، وأصبحت المسألة تمثل بالنسبة لها قضية كبرياء قومي.
ويتمثل الحل الوسط الذي يجري النقاش حوله "كملاذ أخير" في أن يتم السماح لإيران بالاحتفاظ بقدرات تخصيب محددة ومواد نووية بحجم معين (يمكن حسابه رقميًا) تحت ضمانات قوية، مع استخدام العقوبات (بدلاً من الحوار) لإقناعها بذلك، وإذا لم يتم التوصل إلى نتيجة، يتم التفكير جديًا في الملاذ الأخير، عندما يتضح أن إيران تجاوزت خط اللاعودة، وأصبحت هي ذاتها غير قادرة على النكوص.
واشنطن وبناء خيار عسكري للتعامل مع إيران
إن كل المؤشرات التي شهدها عام 2010، بشأن الخيار الأخير تدل على أن الإدارة الأميركية تتعامل مع مسألة الخيار العسكري في التعامل مع إيران بجدية، وعادة ما توجد دلائل محددة لا تتعلق بالتصريحات السياسية، وإنما بالتحركات العسكرية الفعلية التي تشير إلى أن ذلك يحدث، سواء كان الأمر يتعلق بتحريك مجموعات بحرية عسكرية إلى منطقة الخليج، أو البدء في توفير نظم دفاع صاروخية لدول الخليج، أو التفاهم مع تلك الدول حول ما سيتم القيام به في حالة اتخاذ القرار بذلك، فهناك مجموعة مؤشرات تقود إلى نتيجة محددة وهي أنه يتم بناء خيار عسكري للتعامل مع إيران. لقد كانت المشكلة المزمنة التي تعرقل التفكير العملي في شن حرب من نوعٍ ما ضد إيران، تتعلق بما يلي:
إمكانية القيام بقصف منشآت نووية إيرانية " قيد العمل"، فمنشأة ناتانز تحديدًا تحتوي على أجهزة تعمل وقد تم تزويدها بمواد نووية، ولم يكن من المتصور أن يتم قصف منشأة نشطة؛ نظرًا لما قد يتسبب فيه ذلك من تلوث نووي واسع النطاق لن يتيح التعامل مع إيران ما بعد الحرب بأية صورة، وهنا كان أخطر ما تم التصريح به من جانب ديفيد بتريوس قائد القيادة المركزية الأميركية، ولا يتعلق بما أشار إليه من أن هناك خيارًا عسكريا، بقوله: "إنه سيكون من غير المسؤول تمامًا ألا تفكر القيادة الأميركية الوسطى المسؤولة عن المنطقة في سيناريوهات محتملة، وأن تضع خططًا للرد على مجموعة متنوعة من الأوضاع الطارئة في إيران"، وإنما يتعلق بقوله: "إن ضرب المنشآت النووية ممكن بالتأكيد".
ولقد كان مفهومًا طوال الوقت، أن المعامل الأميركية قد عملت على تطوير أساليب وأسلحة تتيح حدوث ذلك نظريًا، بطريقة الضربات المتتالية عبر ذخائر مطوَّرة لتلك الحالة، والمعنى أن هناك قناعة معلنة حاليًا بأن الضربة العسكرية ستكون فعالة، وستكون تداعياتها ضمن التوقعات المقبولة.
احتمالات رد الفعل الإيراني تجاه الحرب، ويدرك كل من تابع ما جرى في العاصمة الأميركية قبل شن الهجوم على العراق عام 2003 أن هناك تيارين يظهران في تلك الظروف، أحدهما يبالغ في تقدير رد فعل الدولة الهدف التي ستقلب العالم رأسًا على عقب بالنسبة للولايات المتحدة، وآخر يهوِّن تمامًا من احتمالات رد فعلها استنادًا على تقدير عناصر قوتها وعناصر ضعفها، وفي الوقت الحالي يسيطر في العاصمة الأميركية تيار التهوين من احتمالات رد فعل إيران، فسوف يتم ضرب قواعد الصواريخ أرض أرض، وما سيفلت منها -وفق ذلك التصور- لن تتجاوز تأثيراته ما جرى عندما أطلق العراق 39 صاروخًا متوسط المدى ضد إسرائيل، أو ما أُطلق ضد السعودية عام 1991.
إضافة لذلك، يتم التفكير طويلاً في إستراتيجيات لكيفية التعامل مع حالات زعزعة الاستقرار التي قد تقوم بها إيران ضد العراق وأفغانستان، كما توجد تهديدات مباشرة موجهة لحزب الله وحركة حماس، إذا فكَّرتا في العمل ضمن إستراتيجية الرد الإيرانية، ما يبقى بعد ذلك هو زوارق الصواريخ البحرية السريعة التابعة للحرس الثوري في مياه الخليج، وقد تم تسريب تقارير من داخل البنتاجون تشير إلى أن عملية تحديث للخطط العسكرية تجري حاليًا، وهو مؤشر ما!.
إن واحدًا من دروس العلاقات الدولية يقرر أنه لا يهم ما قد يجري في مكان ما من العالم، لكن ما يهم هو ما نعرفه عما يجري هناك، فإذا وقع تطور مؤثر ولم نعرف به فإنه في الحقيقة لم يقع بالنسبة لنا، أي أن المسألة في النهاية تتعلق بالمدركات. وهنا فإنه بصرف النظر عما إذا كان ما تفكر فيه الإدارة الأميركية بشأن الخيار العسكري وتداعيات ضرب إيران يمكن أن يكون دقيقًا أم لا -ولم يكن مثل ذلك دقيقًا على الإطلاق عام 2003 عندما اتُّخذ قرار غزو العراق- فإن الواقع الآن هو أن التوجه السائد في واشنطن حاليًا هو أن الخيار العسكري ممكن، وأنه يمكن احتمال تداعياته أو على الأقل "يجب توفير خيار حقيقي للرئيس" إذا قرر أن يفعل ذلك، وبالتالي لدينا مباراة قد تتحول إلى حرب في وقت ما، وهذا الخيار يرتبط بدوره بتقدير المدى الزمني الحرج لتقدم قدرات إيران النووية.
في النهاية، فإن هناك تصورات شائعة بأن عام 2010 سيكون عام الحسم بالنسبة لمشكلة برنامج تخصيب اليورانيوم في إيران، فإيران تبدو مندفعة في الحديث عن برامجها وإنجازاتها النووية، وهناك ضغط على الرئيس الأميركي الذي فشلت سياسة الحوار مع إيران التي لوَّح بها مع تولِّيه الإدارة، ولن تصل العقوبات إلى مستوى يمكِّنه من تحويل توجهات إيران على الأرجح، مع وجود ضغوط إسرائيلية في واشنطن تدفع في اتجاه اتخاذ موقف حاد، وإلا "ستفعلها بنفسها" رغم عدم مصداقية ذلك، وبالتالي سيجد الرئيس الأميركي نفسه في وقت ما من العام مطالبًا باتخاذ موقف، سيبدأ بتهديدات عسكرية تستند على قدرة على التنفيذ ضد إيران، وما سيبقى بعد ذلك سيتحدد في طهران، فإما أن تتكرر سيناريوهات حرب تحرير الكويت ضد العراق عام 1991، أو يتراجع أوباما ليتكرر سيناريو كوريا الشمالية في الشرق الأوسط، أو يتم التوصل إلى حل وسط يرحِّل المشكلة زمنيًا على غرار "نقل المواد النووية إلى الخارج"، ولا توجد توقعات محددة لما قد ينتهي إليه الأمر، إذ إن كل الاحتمالات واردة، فالمباراة قد تستمر كمباراة، لكنها أيضًا قد تنقلب إلى حرب.
المصدر: مركز الجزيرة لدرسات
الإثنين أغسطس 15, 2011 4:07 pm من طرف Gulf Knight
» الوصول إلى أي مكان في العالم خلال أقل من ساعة هدف أميركي قد يتحقق اليوم
الإثنين أغسطس 15, 2011 4:02 pm من طرف Gulf Knight
» إسرائيل تبحث شراء وسائل قتالية أميركية مستعملة فى العراق
الإثنين أغسطس 15, 2011 4:00 pm من طرف Gulf Knight
» كتيبة بنيامين تجدد التأكيد على جهوزية الجيش الإسرائيلي لمواجهات سبتمبر
الإثنين أغسطس 15, 2011 3:59 pm من طرف Gulf Knight
» قبيل الانسحاب: العراق يتسلّم 22 مروحية مي-17 محدّثة من شركة ARINC الأميركية
الخميس أغسطس 11, 2011 6:30 pm من طرف Gulf Knight
» أفغانستان تتسلم 9 مروحيات "مي-17" من روسيا بحلول نهاية العام
الخميس أغسطس 11, 2011 6:29 pm من طرف Gulf Knight
» مناورات جوية لقوات دول الاتحاد السوفياتي السابق لمكافحة الإرهاب
الخميس أغسطس 11, 2011 6:28 pm من طرف Gulf Knight
» روسيا تطوّر نظامي الدفاع الجوي الجديدين: مارفي و فيتياز
الخميس أغسطس 11, 2011 6:27 pm من طرف Gulf Knight
» إختفاء صواريخ مضادة للدروع من معسكر إسرائيلي في الجولان
الخميس أغسطس 11, 2011 6:26 pm من طرف Gulf Knight
» إسرائيل تطور طائرة جديدة دون طيار
الخميس أغسطس 11, 2011 6:25 pm من طرف Gulf Knight
» إسقاط مروحية تشينوك في أفغانستان يودي بحياة 31 جندياً أميركياً و7 جنود أفغان
الخميس أغسطس 11, 2011 6:23 pm من طرف Gulf Knight
» دبابات الجيش السوري تقتحم مدينتي سراقب وقصير
الخميس أغسطس 11, 2011 6:22 pm من طرف Gulf Knight
» أحزاب الشيطان من طهران إلى العراق ولبنان
الخميس أغسطس 11, 2011 6:20 pm من طرف Gulf Knight
» سوريا وتركيا.. لقاء الوداع؟
الخميس أغسطس 11, 2011 6:19 pm من طرف Gulf Knight
» سوريا: تصورات نهاية النظام
الخميس أغسطس 11, 2011 6:19 pm من طرف Gulf Knight