آخر مهاجر روسي في بلاد الاهرام

آخر مهاجر روسي في بلاد الاهرام
17.06.2010 آخر تحديث [14:08]

يستند هذا المقال الى مقتطفات للكتاب " مصر الروسية" بقلم فلاديمير بيلياكوف.

تجولت في يوم من ايام عام 1987 في شوارع مصر الجديدة بالقاهرة. فقررت تفقد ما تضمه من الكتب مكتبة متنقلة وضعت كتبها على الرصيف. وفوجئت بكتب مطبوعة باللغة الروسية يعود صدورها الى مطلع القرن العشرين، وبينها التوراه والانجيل ومعجم روسي بقلم فلاديمير دال ومجلد بقلم ايفان تورغينيف وغيرها من الكتب الروسية. فسألت ولدا يقف على الرصيف جنب الكتب: من اين هذه الكتب؟ - قال : لا اعلم، ربما توفي صاحبها فنقوم ببيعها مقابل قروش. ولاحظت ان كل تلك الكتب تحتوي على امضاء لاوليغ فولكوف. فتسائلت من هو اوليغ فولكوف. فخطر ببالي انه من مهاجري الموجة الاولي الذين اتى بهم الانجليز عام 1920 من ميناء نوفوروسيسك الروسي الى الاسكندرية، وذلك بعد انتهاء الحرب الاهلية في روسيا. وكان عددهم 4500 لاجئ روسي استقروا اولا في مخيم ببلدة تل الكبير بين القاهرة والاسكندرية.

وكتبت فالنتينا ابنة الكاتب الروسي المعروف يفغيني تشيريكوف في مذكراتها:" لقينا حوالينا صحراء جرداء وفوقنا الشمس الافريقية القاسية. واقمنا في مخيم محيط باسلاك شائكة يقوم الجنود الهنود بحراسته. وكنا نصغي ليلا الى عواء ابي وائل. وضمن محيطنا ضباط روس يشكل مصابون بجروح ومرض حمى التيفوس نصفا منهم. واطلقنا على هذا المخيم تسمية تل سيبيريا بدل تل الكبير.

قد زرت بلدة تل الكبير في شهر مايو/آيار عام 1990 بحثا عن آثار ذلك المخيم. فلقيت هناك مقبرة عسكرية بريطانية عثرت فيها على قبور روسية. واتضح ان الكثير من الروس المدفونين في المقبرة توفوا في ربيع عام 1919 ، اي قبل وصول ضحايا الحرب الاهلية الروس. وعثرت في الارشيف عن معلومات تفيد بان الانجليز استولوا في احد الاشتباكات المسلحة مع الاتراك عام 1918 على مجموعة من الاسرى العسكريين الروس الذين جلبوهم الى مخيم تل الكبير، ثم قاموا بتهجيرهم الى روسيا.

قامت السلطات البريطانية في مطلع عام 1921 بنقل اللاجئين الروس من مخيم تل الكبير الى ثكنات خشبية في بلدة سيدي بشر شرقي الاسكندرية. وكانت ظروف الاقامة هناك احسن بكثير مما كانت عليه في تل الكبير. وذلك لقرب مدينة الاسكندرية التي كان يمكن الذهاب اليها دون نيل ترخيص وهبوب نسيم البحر الذي كان يخفف من الحرارة.

واحاط الانجليز "المدينة الروسية" بالاسلاك الشائكة ووضعوا حراسة عند بابها، لكنهم لم يتدخلوا في شؤون اهاليها. اما اللاجئون فقاموا بتسيير امورهم بانفسهم ونصبوا العلم الروسي في مدخل المعسكر وانشأوا كنيسة وثلاث مدارس وساحة رياضية ومسرحا وفريقا للغناء يتألف من 40 مغن ومغنية كانوا يقدمون عروضا غنائية في الاسكندرية وروضة للاطفال وحتى بدأوا في اصدار مجلة اسمها "الغربة".

وسمحت السلطات للاجئين بان يبحثوا عن العمل. ولم يكن الروس بطبيعتهم تجارا . لذلك فشلت معظم المشاريع التجارية التي قاموا بفتحها في الاسكندرية، وبينها معمل الحلويات واكشاك السجائر وتجارة السندويشات على شاطئ البحر في موسم السباحة. لكن عملهم بالاستئجار كان انجح بكثير. وصار الضباط السابقون يعملون سائقين لسيارات الاجرة وكمسارية في الترام وندلاء في المطاعم. اما الذين كان تخصصهم الطب والهندسة فعملوا مهندسين واطباء . وشهدت القاهرة عام 1920 تدشين اول مستوصف روسي في مصر. وانتقل اهالي سيدي بشر تدريجيا من المعسكر الى الاسكندرية لينالوا الوضع القانوني للمهاجر.

وقام الانجليز عام 1922 باغلاق معسكر سيدي بشر واجلاء من تبقى هناك من اللاجئين – وعددهم حولي 2000 لاجئ - الى بلغاريا وصربيا..

وبلغ عدد المهاجرين الروس في مصر في مطلع عشرينات القرن الماضي ما لا يقل عن 10 آلاف مهاجر، وبينهم اليكسي سميرنوف القنصل العام السابق لروسيا القيصرية في القاهرة. الذي اعفي عن منصبه بالمرسوم الصادر عن وزارة الخارجية البلشفية في 9 ديسمبر/كان الاول عام 1917 وشأنه شأن معظم الدبلوماسيين الذين تخلوا عن خدمة السلطة السوفيتية (المزيد من التفاصيل عن مصير اليكسي سميرنوف على موقعنا).

في اكتوبر/تشرين الاول عام 1923 اتخذت الحكومة المصرية بعد اعلان استقلالها الشكلي قرارا بعدم الاعتراف بالقنصلية الروسية السابقة. وتم في عام 1926 تشكيل مكتب روسي لدى وزارة الخارجية المصرية. وفقد اللاجئون جنسيتهم بمنحهم هويات خاصة. وصار الكثير منهم يغادرون مصر الى اوروبا مما تسبب في تقليص الجالية الروسية في مصر. وغادر آخر فريق للمهاجرين الروس بلاد الاهرام بعد قيام ثورة جمال عبد الناصر عام 1952 .

كنت اتسائل دوما عما اذا بقي احد من المهاجرين الروس في مصر. وقال لي بعض المستشرقين القدامى انهم رأوا في القاهرة في مطلع الستينات ناديا روسيا . لكن دخولهم في هذا النادي كان محظورا لاسباب سياسية. كما انهم اشاروا الى وجود كنيسة روسية ما في الاسكندرية او القاهرة. فسألت راعي الكنيسة الاثوذكسية الروسية في مصر الكاهن دميتري نيتسفيتايف عما اذا كان يعرف احدا من رعيته الروسية. قال كلهم في المقبرة.

قد تم بيع النادي الروسي عام 1981 . اما الكنيسة الروسية التي كان عنوانها: القاهرة الجديدة ، شارع ابو سمبل 12 فتم تسليمها الى اليونانيين. وقد توفي اوليغ فولكوف آخر المهاجرين الروس في مطلع الثمانينات بمصر.

واتضح فيما بعد ان اوليغ فولكوف هو مؤلف لـ 4 كتب صادرة باللغة الفرنسية عن دار الطباعة والنشر التابعة للمعهد الفرنسي لعلم الآثار في القاهرة الذي كان فلاديمير غولينيشيف بروفسورا فيه. ومن تلك الكتب الدليل السياحي "في واد النيل" عام 1967 وتاريخ دراسة المخطوطات في مصر" عام 1970 و"الذكرى الـ 1000 لتأسيس العاصمة المصرية" و"الرحالة الروس في مصر" عام 1972. ولم يكن اوليغ فولكوف مختصا في التاريخ. ولكنه ولع بهذا العلم في سن الرشد. وكان يدرّس اللغة الفرسية في الكلية الالمانية وهو روسي الاصل. وبعد احالته على المعاش انهمك في دراسة التاريخ وعلم الآثار. وبعد وفاته حضر شقيقه البريطاني الى القاهرة لتفقد امتعته الشخصية فاختار بعض الكتب واشترى المعهد الفرنسي بعضها الاخر. اما ما تبقى من مكتبة فولكوف فتم بيعها الى اصحاب المكتبات.

http://www.rtarabic.com/news_all_news_r ... orld/49444